الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّـٰلِحِينَ} (101)

قالوا : فلمّا جمع الله ليوسف شمله وأقرّ له عينه وأتمّ له رؤياه ، وكان موسّعاً له في ملك الدنيا ونعيمها علم أنّ ذلك لا يدوم له وأن لابدّ له من فراقه فأراد نعيماً هو ( أدوم ) منه ، فاشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنى الموت ودعا ربّه ، ولم يتمنَّ نبي قبله ولا بعده الموت فقال : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } يعني ملك مصر { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } يعني تعبير الرؤيا { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي خالقها وبارئها .

{ أَنتَ وَلِيِّي } مُعيني { فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ } تتولّى أمري { تَوَفَّنِي } اقبضني إليك { مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } بآبائي النبيين .

قيل : فتوفّاه الله طيّباً طاهراً بمصر ، ودفن في النيل في صندوق رُخام ، وذلك أنّه لما مات تشاحّ الناس عليه كلٌّ يُحب أن يُدفن في محلّتهم لما يرجون من بركته ، فاجتمعوا على ذلك حتى همّوا بالقتال ، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث مفرق الماء بمصر فيمرّ الماء عليه ثمّ يصل الماء إلى جميع مصر ، فيكونوا كلّهم فيه شرعاً واحداً ففعلوا .

وروى صالح المرّي ، عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك ، قال : إنّ الله عزّ وجل لمّا جمع ليعقوب شمله خلا ولده نجيّاً ، فقال بعضهم لبعض : أليس قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف ؟ قالوا : بلى ، قال : فإنْ أعَفَوا عنكم ولكن كيف لكم بربّكم ؟ ، فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد .

قالوا : يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله ، حتى حرّكوه ، والأنبياء ( عليهم السلام ) أرحم البريّة ، فقال : ما لكم يا بَنيَّ ؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منّا إليك ، وما كان منّا إلى أخينا يوسف ؟ قالا : بلى ، وقالوا : أفلستما قد عفوتما ، قالا : بلى ، قالوا : فإنّ عفوكما لا يغني عنّا إنْ كان الله لم يعفُ عنّا ، قال : فما تُريدون يا بَني ؟ قالوا : نُريد أن تدعو الله فإذا جاء الوحي من عند الله بأنّه قد عفا عنا صُنْعَنا قرّت أعيُننا واطمأنّت قلوبنا ، وإلاّ فلا قرّة عين لنا في الدنيا أبداً ، فقام الشيخ واستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلّة خاشعين ، فدعا يعقوب وأمّن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة .

قال صالح المرّي : يخيفهم ، حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبرئيل على يعقوب فقال : إنّ الله تبارك وتعالى بعثني إليك أُبشّرك ، فإنّه قد أجاب دعوتك في وِلدك ، وإنّه قد عفا عمّا صنعوا ، فإنّه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة ، وذلك الذي ذكرت وقصصتُ عليك .