بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّـٰلِحِينَ} (101)

قوله تعالى : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : إن الله تعالى مدح يوسف في هذه السورة ، في ثمانية مواضع . أولها أن أخوته لما فعلوا به ما فعلوا ، صرف العداوة من إخوته إلى الشيطان . فقال : { مِنْ بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشيطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوِتِي } والثاني : حين راودته المرأة ، قال : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } فعرف حرمة سيده ، ولم يهتك حرمته . الثالث { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } فاختار السجن على الشهوة الحرام .

والرابع قال : { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ } بعد ما ظهر أن الذنب كان من غيره .

والخامس لما اعتذر إليه إخوته ، قال لهم : { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } والسادس أنه بعث القميص على يد إخوته كما أدخلوا على أبيهم الحزن في الابتداء ، أراد أن يدخلوا عليه السرور . فقال : { اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا } والسابع : لما لقي أباه ، لم يذكر عنده ما لقي من الشدة ، وإنما ذكر المحاسن ، حيث قال : { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِّنَ البَدْوِ } .

والثامن : لما تمّ أمره ، تمنى الموت ، وترك الدنيا ، قال : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } أي : أعطيتني من الملك . يعني : بعض الملك ، وهو ملك مصر { وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } يعني : بعض التأويل . ويقال : من ههنا لإبانة الجنس ، لا للتبعيض . ومعناه { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني تأويل الأحاديث } يعني : تعبير الرؤيا { فَاطِر السَّمَوَاتِ وَالأرض } يعني : خالق السموات والأرض { أَنْتَ وَلِييِّ فِي الدُّنْيَا وَاْلآخِرَة تَوَفَّنِي مُسْلِماً } يعني : أمتني مخلصاً بتوحيدك { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } يعني : بآبائي المرسلين . ويقال : عاش يعقوب في أرض مصر ، سبع عشرة سنة ، وكان عمره مائة وسبعاً وأربعين سنة . وعاش يوسف بعده ثلاثاً وعشرين سنة ، ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة . ويقال : ابن مائة وعشر سنين . وأوصى يعقوب بأن يدفن عند آبائه ، فحمل إلى الأرض المقدسة ، فدفن مع أخيه يحصوص بن إسحاق . فلما مات يوسف ، أرادوا أن يحملوه إلى الأرض المقدسة ، فلم يتركهم أهل مصر ، واختلفوا في دفنه ، وأراد أهل كل محلة أن يدفن في مقابرهم ، وكاد أن يقع بينهم قتال ، حتى اصطلحوا واتفقوا على أن يدفن عند قسمة مياههم في أعلى مصر ، لكي يصيب بركته أهل مصر ، وكان هناك إلى زمن موسى عليه السلام ، فرفعه موسى ، وحمله إلى الأرض المقدسة ، ووضعه عند آبائه ، وقد كان يوسف أوصى إلى بني إسرائيل أن يحملوا عظامه من أرض مصر إذا خرجوا من مصر .