السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّـٰلِحِينَ} (101)

ولما تم أمره وعلم أنه لا يدوم تاقت نفسه إلى الملك الدائم فقال : { رب قد آتيتني } وافتتح بقد ؛ لأنّ الحال حال توقع السامع لشرح حال الرؤيا { من الملك } ، أي : بعضه بعد بعدي منه جدًّا وهو ملك مصر { وعلمتني من } ، أي : بعض { تأويل الأحاديث } طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك { والله غالب على أمره } [ يوسف ، 21 ] ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال : { فاطر } ، أي : خالق { السماوات والأرض } ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعوّل على غيره في شيء من الأشياء { أنت وليي } ، أي : الأقرب إليّ باطناً وظاهراً { في الدنيا والآخرة } ، أي : لا وليّ لي غيرك ، والولي يفعل لموليه الأصلح والأحسن فأحسن لي في الآخرة أعظم مما أحسنت لي في الدنيا .

روي أنه صلى الله عليه وسلم حكى عن جبريل عن رب العزة جل وعلا أنه قال : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين » فلهذا المعنى من أراد الدعاء لا بدّ وأن يقدّم عليه ذكر الثناء على الله تعالى فهذا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله : { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض } ثم ذكر عقبه الدعاء وهو قوله { توفني } ، أي : اقبض روحي وافياً تامًّا في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني { مسلماً } ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص عقبه بقوله : { وألحقني بالصالحين } ونظيره ما فعله الخليل عليه السلام في قوله : { الذي خلقني فهو يهدين } [ الشعراء ، 78 ] فمن هاهنا إلى قوله : { رب هب لي حكماً } ثناء على الله تعالى ثم قوله : { رب هب لي حكماً } إلى آخر الكلام دعاء فكذا هنا .

تنبيه : اختلف في قوله { توفني مسلماً } هل هو طلب منه للوفاة أم لا ؟ فقال قتادة : سأل ربه اللحوق به ولم يتمنّ نبيّ قط الموت قبله ، وكثير من المفسرين على هذا القول . وقال ابن عباس في رواية عطاء : يريد إذا توفيتني فتوفني على الإسلام ، فهذا طلب لأن يجعل الله تعالى وفاته على الإسلام ، وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة ، واللفظ صالح للأمرين ، ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها : أنّ الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمّة الدنيا إلا أنّ حاصل كلامهم يرجع إلى ثلاثة أمور :

أحدها : أنّ هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشدّ من اللذة الحاصلة عند وجدانها .

وثانيها : أنها غير حاصلة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدّرات .

وثالثها : أنّ الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها ، بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل ، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات ، ولما عرف العاقل أنه لا يحصل تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم تمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات ، ومنها : أن تداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع : لذة الأكل ولذة النكاح ولذة الرياسة ، ولكل واحدة منها عيوب كثيرة ، أمّا لذة الأكل ففيها عيوب أحدها : أنّ هذه اللذة ليست لذة قوية ، فإنه لا يمكن إبقاؤها ، فإنّ الإنسان إذا أكل وشبع لم يبق فيه الالتذاذ ، بالأكل ، فهذه اللذة ضعيفة ، ومع ضعفها غير باقية : وثانيها : أنها في نفسها خسيسة وأنّ الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ، ولا شك أنه شيء منفر ، ولما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة ، وذلك أيضاً منفر ، وثالثها : أنّ جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة له فيها ، ورابعها : أنّ الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع ، والجوع نقص وآفة ، وخامسها : أنّ الأكل مستحقر عند العقلاء حتى قيل : من كانت همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه ، فهذه إشارات مختصرة إلى معايب الأكل ، وأمّا لذة النكاح فما ذكر في الأكل حاصل هنا مع أشياء أخر ، وهي أنّ النكاح سبب لحصول الولد ، وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجات إلى المال ، فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في المال بطرق لا نهاية لها ، وربما صار هالكاً بسبب طلب المال .

وأمّا لذة الرياسة فعيوبها كثيرة منها : أن يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان ، ومنها : أنه عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال ، ومنها أنه يكون عند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال ، فالعاقل إذا تأمّل في هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات فيكون لقاء الله عنده أرجح فيتمنى الموت .

وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت فقال له : صنع الله لك خيراً كثيراً أحييت سنناً ، وأمت بدعاً وفي حياتك خير وراحة للمسلمين فقال : أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع أمره قال : { توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } .

فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام ، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وإنه لا يجوز ؟ أجيب : بأن حال كمال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الاستسلام ، ويرضى بقضاء الله ، وتطمئن النفس وينشرح الصدر ، وينفسح القلب في هذا الباب ، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضدّ الكفر ، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى . فإن قيل : إنّ يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء ، والصلاح أوّل درجة المؤمنين فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية ؟ أجيب : بأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يعني بأن يلحقه بآبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم ، وولد ليوسف عليه السلام من امرأة العزيز ثلاثة افراثيم وميشا وهو جدّ يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب عليهم السلام ، ولما تاقت نفسه إلى الملك المخلد وتمنى الموت فلم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً ، وتشاح الناس في دفنه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل حيث يتفرّق الماء بمصر ليجري عليه الماء ، وتصل بركته إلى جميعهم ، قال عكرمة : دفن في الجانب ، الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب ، وأجدب الجانب ، الآخر ، فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الآخر ، فدفنوه في وسطه وقدّروا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان إلى أن أخرجه موسى عليه السلام ودفنه بقرب آبائه بالشام ، وقد يسر الله تعالى

زيارته وزيارة آبائه في عام شرعت في هذا التفسير سنة أربع وستين وتسعمائة جمعني الله تعالى وآبائي وأهلي وأصحابي وأحبابي معهم في دار كرامته .