ولما تم أمره وعلم أنه لا يدوم تاقت نفسه إلى الملك الدائم فقال : { رب قد آتيتني } وافتتح بقد ؛ لأنّ الحال حال توقع السامع لشرح حال الرؤيا { من الملك } ، أي : بعضه بعد بعدي منه جدًّا وهو ملك مصر { وعلمتني من } ، أي : بعض { تأويل الأحاديث } طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك { والله غالب على أمره } [ يوسف ، 21 ] ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال : { فاطر } ، أي : خالق { السماوات والأرض } ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعوّل على غيره في شيء من الأشياء { أنت وليي } ، أي : الأقرب إليّ باطناً وظاهراً { في الدنيا والآخرة } ، أي : لا وليّ لي غيرك ، والولي يفعل لموليه الأصلح والأحسن فأحسن لي في الآخرة أعظم مما أحسنت لي في الدنيا .
روي أنه صلى الله عليه وسلم حكى عن جبريل عن رب العزة جل وعلا أنه قال : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين » فلهذا المعنى من أراد الدعاء لا بدّ وأن يقدّم عليه ذكر الثناء على الله تعالى فهذا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله : { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض } ثم ذكر عقبه الدعاء وهو قوله { توفني } ، أي : اقبض روحي وافياً تامًّا في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني { مسلماً } ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص عقبه بقوله : { وألحقني بالصالحين } ونظيره ما فعله الخليل عليه السلام في قوله : { الذي خلقني فهو يهدين } [ الشعراء ، 78 ] فمن هاهنا إلى قوله : { رب هب لي حكماً } ثناء على الله تعالى ثم قوله : { رب هب لي حكماً } إلى آخر الكلام دعاء فكذا هنا .
تنبيه : اختلف في قوله { توفني مسلماً } هل هو طلب منه للوفاة أم لا ؟ فقال قتادة : سأل ربه اللحوق به ولم يتمنّ نبيّ قط الموت قبله ، وكثير من المفسرين على هذا القول . وقال ابن عباس في رواية عطاء : يريد إذا توفيتني فتوفني على الإسلام ، فهذا طلب لأن يجعل الله تعالى وفاته على الإسلام ، وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة ، واللفظ صالح للأمرين ، ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها : أنّ الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمّة الدنيا إلا أنّ حاصل كلامهم يرجع إلى ثلاثة أمور :
أحدها : أنّ هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشدّ من اللذة الحاصلة عند وجدانها .
وثانيها : أنها غير حاصلة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدّرات .
وثالثها : أنّ الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها ، بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل ، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات ، ولما عرف العاقل أنه لا يحصل تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم تمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات ، ومنها : أن تداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع : لذة الأكل ولذة النكاح ولذة الرياسة ، ولكل واحدة منها عيوب كثيرة ، أمّا لذة الأكل ففيها عيوب أحدها : أنّ هذه اللذة ليست لذة قوية ، فإنه لا يمكن إبقاؤها ، فإنّ الإنسان إذا أكل وشبع لم يبق فيه الالتذاذ ، بالأكل ، فهذه اللذة ضعيفة ، ومع ضعفها غير باقية : وثانيها : أنها في نفسها خسيسة وأنّ الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ، ولا شك أنه شيء منفر ، ولما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة ، وذلك أيضاً منفر ، وثالثها : أنّ جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة له فيها ، ورابعها : أنّ الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع ، والجوع نقص وآفة ، وخامسها : أنّ الأكل مستحقر عند العقلاء حتى قيل : من كانت همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه ، فهذه إشارات مختصرة إلى معايب الأكل ، وأمّا لذة النكاح فما ذكر في الأكل حاصل هنا مع أشياء أخر ، وهي أنّ النكاح سبب لحصول الولد ، وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجات إلى المال ، فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في المال بطرق لا نهاية لها ، وربما صار هالكاً بسبب طلب المال .
وأمّا لذة الرياسة فعيوبها كثيرة منها : أن يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان ، ومنها : أنه عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال ، ومنها أنه يكون عند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال ، فالعاقل إذا تأمّل في هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات فيكون لقاء الله عنده أرجح فيتمنى الموت .
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت فقال له : صنع الله لك خيراً كثيراً أحييت سنناً ، وأمت بدعاً وفي حياتك خير وراحة للمسلمين فقال : أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع أمره قال : { توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } .
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام ، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وإنه لا يجوز ؟ أجيب : بأن حال كمال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الاستسلام ، ويرضى بقضاء الله ، وتطمئن النفس وينشرح الصدر ، وينفسح القلب في هذا الباب ، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضدّ الكفر ، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى . فإن قيل : إنّ يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء ، والصلاح أوّل درجة المؤمنين فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية ؟ أجيب : بأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يعني بأن يلحقه بآبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم ، وولد ليوسف عليه السلام من امرأة العزيز ثلاثة افراثيم وميشا وهو جدّ يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب عليهم السلام ، ولما تاقت نفسه إلى الملك المخلد وتمنى الموت فلم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً ، وتشاح الناس في دفنه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل حيث يتفرّق الماء بمصر ليجري عليه الماء ، وتصل بركته إلى جميعهم ، قال عكرمة : دفن في الجانب ، الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب ، وأجدب الجانب ، الآخر ، فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الآخر ، فدفنوه في وسطه وقدّروا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان إلى أن أخرجه موسى عليه السلام ودفنه بقرب آبائه بالشام ، وقد يسر الله تعالى
زيارته وزيارة آبائه في عام شرعت في هذا التفسير سنة أربع وستين وتسعمائة جمعني الله تعالى وآبائي وأهلي وأصحابي وأحبابي معهم في دار كرامته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.