روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

{ وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله } مقولاً فيما بينهم مطلقاً خاطب به بعضهم بعضاً . وفي مجمع البيان عن ابن عباس أن قائله يمليخا ، والاعتزال تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب وكلا الأمرين محتمل هنا ، والتعزل بمعناه ومن ذلك قوله :

يا بيت عاتكة الذي أتعزل*** حذر العدا وبه الفؤاد موكل

و { مَا } يحتمل أن تكون موصولة وإن تكون مصدرية ، والعطف في الاحتمالين على الضمير المنصوب ، والظاهر أن الاستثناء فيهما متصل ، ويقدر على الاحتمال الثاني مضاف في جانب المستثنى ليتأتى الاتصال أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم الذين يعبدونهم إلا الله تعالى أو إذا اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم إلا عبادة الله عز وجل ، وتقدير مستثنى منه على ذلك الاحتمال لذلك نحو عبادتهم لمعبوديهم تكلف ، ويحتمل أن يكون منقطعاً ، وعلى الأول : يكون القوم عابدين الله تعالى وعابدين غيره كما جاء ذلك في بعض الآثار .

أخرج سعيد بن منصور . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . وأبو نعيم عن عطاء الخراساني أنه قال : كان قوم الفتية يعبدون الله تعالى ويعبدون معه آلهة شتى فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى .

وعلى الثاني : يكونون عابدين غيره تعالى فقط ، قيل وهذا هو الأوفق بقوله تعالى أولاً : { هَؤُلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } [ الكهف : 15 ] فتأمل .

وجوز أن تكون ما نافية والاستثناء مفرغ والجملة إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضة بين إذ وجوابه أعني قوله تعالى : { فَأْوُواْ } أي التجؤا { إِلَى الكهف } ووجه الاعتراض على ما في «الكشف » أن قوله تعالى : { وَإِذ اعتزلتموهم } فأووا معناه وإذا اجتنبتم عنهم وعما يعبدون فأخلصوا له العبادة في موضع تتمكنون منه فدل الاعتراض على أنهم كانوا صادقين وأنهم أقاموا بما وصى به بعضهم بعضاً فهو يؤكد مضمون الجملة .

وإلى كون { فَأْوُواْ } جواب إذ ذهب الفراء ، وقيل : إنه دليل الجواب أي وإذا اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانياً أو إذا أردتم الاعتزال الجسماني فافعلوا ذلك . واعترض كلا القولين بأن إذ بدون ما لا تكون للشرط ، وفي «همع الهوامع » أن القول بأنها تكون له قول ضعيف لبعض النحاة أو تسامح لأنها بمعناه فهي هنا تعليلية أو ظرفية وتعلقها قيل بأووا محذوفاً دل عليه المذكور لا به لمكان الفاء أو بالمذكور والظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره ، وقال أبو البقاء : إذ ظرف لفعل محذوف أي وقال بعضهم لبعض ، وظاهره أنه عنى بالفعل المحذوف قال ؛ وأقول : هو من أعجب العجائب . وفي مصحب ابن مسعود كما أخرج ابن جرير . وابن أبي حاتم عن قتادة { وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } وقال هرون : في بعض المصاحب { وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِنَا } وهذا يؤيد الاعتراض ، وفي البحر أن ما في المصحفين تفسير لا قراءة لمخالفته سواد الإمام .

وزعم أن المتواتر عن ابن مسعود ما فيه { يَنْشُرْ لَكُمْ } يبسط لكم ويوسع عليكم { رَبُّكُمْ } مالك أمركم الذي هداكم للإيمان { مّن رَّحْمَتِهِ } في الدارين { ويهيئ } يسهل { لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ } الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين والتوجه التام إلى الله تعالى : { مّرْفَقًا } ما ترفقون وتنتفعون به ، وهو مفعول { يهيئ } ومفعول { الكهف يَنْشُرْ } محذوف أي الخي ونحوه { وَمِنْ أَمَرَكُمُ } على ما في بعض الحواشي متعلق بيهيئ ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض ، وقال ابن الأنباري : للبدل والمعنى يهىء لكم بدلاً عن أمركم الصعب مرفقاً كما في قوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ]

. فليت لنا من ماء زمزم شربة*** مبردة باتت على طهيان

وجوز أن يكون حالاً من { مّرْفَقًا } فيتعلق بمحذوف ، وتقديم { لَكُمْ } لما مر مراراً من الإيذان من أول الأمر بكون المؤخر من منافعهم والتشويق إلى وروده ، والظاهر أنهم قالوا هذا ثقة بفضل الله تعالى وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه سبحانه ونصوع يقينهم فقد كانوا علماء بالله تعالى .

فقد أخرج الطبراني . وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس قال : ما بعث الله تعالى نبياً إلا وهو شاب ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وقرأ { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم } [ الأنبياء : 60 ] { وَإِذْ قَالَ موسى لفتاه } [ الكهف : 60 ] و { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ } [ الكهف : 13 ] وجوز أن يكونوا قالوه عن أخبار نبي في عصرهم به وأن يكون بعضهم نبياً أوحى إليك ذلك فقاله ، ولا يخفي أن ما ذكر مجرد احتمال من غير داع .

وقرأ أبو جعفر . والأعرج . وشيبة . وحميد . وابن سعدان . ونافع . وابن عامر . وأبو بكر في رواية الأعشى . والبرجمي . والجعفي عنه . وأبو عمرو في رواية هرون { مّرْفَقًا } بفتح الميم وكسر الفاء ولا فرق بينه وبين ما هو بكسر الميم وفتح الفاء معنى على ما حكاه الزجاج . وثعلب فإن كلاً منهما يقال في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة ، ونقل مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم ، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء وخالفه أبو حاتم وقال : المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد ، وقال أبوزيد : هو مصدر جاء على مفعل كالمرجع ، وقيل : هما لغتان فيما يرتفق به وأما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لاغير ، وعن الفراء أن أهل الحجاز يقولون : { مّرْفَقًا } بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان ، وأما العرب فقد يكسرون الميم منهما جميعاً اه . وأجاز معاذ فتح الميم والفاء ، وهذا واستدل بالآية على حسن الهجرة لسلامة الدين وقبح المقام في دار الكفر إذ لم يمكن المقام فيها إلا بإظهار كلمة الكفر وبالله تعالى التوفيق .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله } أي وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوى { فَأْوُواْ إِلَى الكهف } فاخلوا بمحبوبكم { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ } مطوي معرفته

{ ويهيئ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا } [ الكهف : 16 ] ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته ، قال بعض العارفين : العزلة عن غير الله تعالى توجب الوصلة بالله عز وجل بل لا تحصل الوصول إلا بعد العزلة ألا ترى كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه