روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا} (6)

{ فَلَعَلَّكَ باخع } أي قاتل { نَّفْسَكَ } وفي معناه ما في صحيح البخاري ملك . والأول مروى عن مجاهد . والسدى . وابن جبير . وابن عباس . وأنشد لابن الأزرق إذ سأله قول لبيد بن ربيعة :

لعلك يوماً ان فقدت مزارها*** على بعده يوما لنفسك باخع

وفي البحر عن الليث بخع الرجل نفسه بخعا وبخو عاقتلها من شدة الوجد وأنشد قول الفرزدق :

ألا أيهذا الباخع الوجد( {[582]} ) نفسه*** لشيء نحته عن يديه المقادر

وهو من بخع الأرض بالزراعة أي جعلها ضعيفة بسبب متابعة الزراعة كما قال الكسائي ، وذكر الزمخشري أن البخع أن يبلغ الذبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن القفا ، وقد رده ابن الأثير وغيره بأنه لم يوجد في كتب اللغة والتشريح لكن الزمخشري ثقة في هذا الباب واسع الإطلاع ، وقرئ { باخع نَّفْسَكَ } بالإضافة وهي خلاف الأصل في اسم الفاعل إذا استوفي شروط العمل عند الزمخشري ، وأشار إليه سيبويه في الكتاب .

وقال الكسائي : العمل والإضافة سواء ، وزعم أبو حيان أن الإضافة أحسن من العمل { على ءاثارهم } أي من بعدهم . يعني من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه . أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة . وشيبة بن ربيعة . وأبا جهل بن هشام . والنضر بن الحرث . وأمية بن خلف . والعاصي بن وائل . والأسود بن المطلب . وأبا البختري في نفر من قريش اجتمعوا . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه كا يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء به من النصيحة فأحزنه حزناً شديداً فأنزل الله تعالى : { فَلَعَلَّكَ باخع } الخ ، ومنه يعلم أن ما ذكرنا أوفق بسبب النزول من كون المراد من بعد موتهم على الكفر .

{ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث } الجليل الشأن ، وهو القرآن المعبر عنه في صدر السورة بالكتاب ، ووصفه بذلك لو سلم دلالته على الحدوث لا يضر الأشاعرة وأضرابهم القائلين : بأن الألفاظ حادثة ، وإن شرطية ، والجملة بعدها فعل الشرط ، والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه عند الجمهور ، وقيل الجواب فلعلك الخ المذكور ، وهو مقدم لفظاً مؤخر معنى ، والفاء فيه فاء الجواب ، وقرئ { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } بفتح همزة أن على تقدير الجار أي لأن ، وهو متعلق بباخع على أنه علة له . وزعم غير واحد أنه لا يجوز أعماله على هذا إذ هو اسم فاعل وعمله مشروط بكونه للحال أو الاستقبال ، ولا يعمل وهو للمضي ، وإن الشرطية تقلب الماضي بواسطة { لَمْ } الاستقبال بخلاف أن المصدرية فإنها تدخل على الماضي الباقي على مضيه إلا إذا حمل على حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة للغرابة .

وتعقبه بعض الأجلة بنه لا يلزم من مضي ما كان علة لشيء مضيه ، فكم من حزن مستقبل على أمر ماض سواء استمر أولاً فإذا استمر فهو أولى لأنه أشد نكاية فلا حاجة إلى الحمل على حكاية الحال .

ووجه ذلك في الكشف بإنه إذا كانت علة البخع عدم الإيمان فإن كانت العلة قد تمت فالمعلول كذلك ضرورة تحقق المعلول عند العلة التامة ، وإن كانت بعد فكمثل ضرورة أنه لا يتحقق بدون تمامها ، وتعقب بأنه غير مسلم ، لأن هذه ليست علة تامة حقيقية حتى يلزم ما ذكر ، وإنما هي منشأ وباعث فلا يضر تقدمها ، وقيل إنه تفوت المبالغة حينئذ في وجده صلى الله عليه وسلم على توليهم لعدم كون البخع عقبه بل بعده بمدة بخلاف ما إذا كان للحكاية ، وتعقب أيضاً بأنه لا وجه له بل المبالغة في هذا أقوى لأنه إذا صدر منه لأمر مضي فكيف لو استمر أو تجدد ؟ ولعل في الآية ما يترجح له البقاء على الاستقبال فتدبر ، وانتصاب قوله تعالى : { أَسَفاً } بباخع على أنه مفعول من أجله .

وجوز أن يكون حالا من الضمير فيه بتأويل متأسفاً لأن الأصل في الحال الاشتقاق وأن ينتصب على أنه مصدر فعل مقدر أي تأسف أسفاً ، والأسف على ما نقل عن الزجاج المبالغة في الحزن والغضب .

وقال الراغب : الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الإنفراد ، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان على من دونه انتشر فصار غضباً ومتى كان على ما فوقه انقبض فصار حزناً ، ولذلك سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الحزن والغضب فقال : مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظاً وغضباً ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزناً وجزعاً ، وبهذا النظر قال الشاعر :

فحزن كل أخى حزن أخو الغضب*** وإلى كون الأسف أعم من الحزن والغضب وكون الحزن على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف والغضب على من هو في قبضته وملكه ذهب منذر بن سعد وفسر الأسف هنا بالحزن بخلافه في قوله تعالى : { فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] وإذا استعمل الأسف مع الغضب يراد به الحزن على ما قيل في قوله تعالى : { وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفًا } [ الأعراف : 150 ] وجعل كل منهما فيه بالنسبة إلى بعض من القوم ، وعن قتادة تفسير الأسف هنا بالغضب ، وفي رواية أخرى بالحزن . وفي صحيح البخاري تفسيره بالندم .

وعن مجاهد تفسيره بالجزع ، وأهل الحزن أكثر ، ولعل للترجى وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه ، وهي هنا استعارة أي وصلت إلى حالة يتوقف منك الناس ذلك لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم .

وقال العسكري : هي هنا موضوعة موضع النهي كأنه قيل لا تبخع نفسك ، وقيل موضع الاستفهام ، وجعله ابن عطية إنكارياً على معنى لا تكن كذلك ، والقول بمجيء لعل للاستفهام قول كوفي ، والذي يظهر أنها هنا للإشفاق الذي يقصد به التسلي والحث على ترك التحزن والتأسف ، ويمكن أن يكون مراد العسكري ذلك ، وفي الآية عندّ غير واحد استعارة تمثيلية وذلك أنه مثل حاله صلى الله عليه وسلم في شدة الوجد على أعراض القوم وتوليهم عن الإيمان بالقرآن وكمال الحزن عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه إثر فوت ما يحبه عند مفارقة أحبته تأسفاً على مفارقتهم وتلهفاً على مهاجرتهم ثم قيل ما قيل ، وهو أولى من اعتبار الاستعارة المفردة التبعية في الأطراف . وجوز أن تكون من باب التشبيه لذكر طرفيه وهما النبي صلى الله عليه وسلم وباخع بأن يشبه عليه الصلاة والسلام لشدة حرصه على الأمر بمن يريد قتل نفسه لفوات أمر وهو كما ترى .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] فيه إشارة إلى مزيد شفقته صلى الله عليه وسلم واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض } من الأنهار والأشجار والجبال والمعادن والحيوانات { زِينَةً لَّهَا } أي لأهلها { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز وجل ، وقال ابن عطاء : حسن العمل الإعراض عن الكل ، وقال الجنيد : حسن العمل اتخاذ ذلك عبرة وعدم الاشتغال به .

وقال بعضهم : أهل المعرفة بالله تعالى والمحبة له هم زينة الأرض وحسن العمل النظر إليه بالحرمة .


[582]:- قال أبو عبيدة كان ذو الرمة ينشد الوجد بالرفع وقال الأصمعي إنما هو الوجد بالفتح اهـ فيكون نصبه على أنه مفعول لأجله ونحته مخفف نحته اهـ منه.