{ فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } أي بدل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم قولاً غيره { فَبَدَّلَ } يتعدى لمفعولين أحدهما : بنفسه والآخر : بالياء ، ويدخل على المتروك فالذمّ متوجه وجوّز أبو البقاء أن يكون بدل محمولاً على المعنى ، أي : فقال الذين ظلموا قولاً الخ ، والقول بأن ( غير ) منصوب بنزع الخافض ، كأنه قيل : فغيروا قولاً بغيره غير مرضي من القول ، وصرح سبحانه بالمغايرة مع استحالة تحقق التبديل بدونها تحقيقاً لمخالفتهم وتنصيصاً على المغايرة من كمل وجه ، وظاهر الآية انقسام من هناك إلى ظالمين وغير ظالمين وأن الظالمين هم الذين بدلوا وإن كان المبدل الكل كان وضع ذلك من وضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بالعلة .
واختلف في القول الذي بدلوه ففي الصحيحين أنهم قالوا : حبة في شعيرة ، وروى الحاكم { حنطة } بدل { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } وفي «المعالم » إنهم قالوا بلسانهم حطة سمقاثاً أي حنطة حمراء ، قالوا ذلك استهزاء منهم بما قيل لهم ، والروايات في ذلك كثيرة ، وإذا صحت يحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين ، والقول بأنه لم يكن منهم تبديل ومعنى فبدلوا لم يفعلوا ما أمروا به ، لا أنهم أتوا ببدل له غير مسلم وإن قاله أبو مسلم وظاهر الآية ، والأحاديث تكذبه .
/ { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } وضع المظهر موضع الضمير مبالغة في تقبيح أمرهم ، وإشعاراً بكون ظلمهم وإضرارهم أنفسهم بترك ما يوجب نجاتها ، أو وضعهم غير المأمور به موضعاً سبباً لإنزال الرجز وهو العذاب وتكسر راؤه وتضم والضم لغة بني الصعدات وبه قرأ ابن محيصن ، والمراد به هنا كما روى عن ابن عباس ظلمة وموت ، يروى أنه مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً ، وقال وهب : طاعون غدوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك ، وقال ابن جبير : ثلج هلك به منهم سبعون ألفاً فإن فسر بالثلج كان كونه { مّنَ السماء } ظاهراً وإن بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء أو مبالغة في علوّه بالقهر والاستيلاء ، وذكر بعض المحققين أن الجار والمجرور ظرف مستقر وقع صفة لرجزاً و{ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } متعلق به لنيابته عن العامل علة له ، وكلمة ( ما ) مصدرية ، والمعنى : أنزلنا على الذين ظلموا لظلمهم عذاباً مقدراً بسبب كونهم مستمرين على الفسق في الزمان الماضي ، وهذا أولى من جعل الجار والمجرور ظرفاً لغواً متعلقاً بأنزلنا لظهوره على سائر الأقوال ، ولئلا يحتاج في تعليل الإنزال بالفسق بعد التعليل المستفاد من التعليق بالظلم إلى القول بأن الفسق عين الظلم وكرر للتأكيد ، أو أن الظلم أعم والفسق لا بد أن يكون من الكبائر ، فبعد وصفهم بالظلم وصفوا بالفسق للإيذان بكونه من الكبائر ، فإن الأول( {[165]} ) : بضاعة العاجز .
والثاني : لا يدفع ركاكة التعليل ، وما قيل : إنه تعليل للظلم فيكون إنزال العذاب مسبباً عن الظلم المسبب عن الفسق ليس بشيء ، إذ ظلمهم المذكور سابقاً ، الذي هو سبب الإنزال لا يحتاج إلى العلة ، وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى : { فَبَدَّلَ } الخ ؛ وترتب العذاب على التبديل ، على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر ، وقال قول : يجوز ذلك إذا كانت الكلمة الثانية تسد الأولى( {[166]} ) ، وعلى هذا جرى الخلاف كما في البحر في قراءة القرآن بالمعنى ورواية الحديث به ، وجرى في تكبيرة الإحرام ، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك ، والبحث مفصل في محله هذا . وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمه الله تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات . الأول : قال هنا : { وَإِذْ قُلْنَا } [ البقرة : 8 5 ] لما قدم ذكر النعم ؛ فلا بد من ذكر المنعم ، وهناك { وَإِذْ قِيلَ } [ الأعراف : 161 ] إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به . الثاني : قال هنا : { أَدْخِلُواْ } وهناك { اسكنوا } لأن الدخول مقدم ، ولذا قدم وضعاً المقدم طبعاً . الثالث : قال هنا : { خطاياكم } بجمع الكثرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه ، واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة ، وهناك { خطيئاتكم } بجمع القلة إذ لم يصرح بالفاعل . الرابع : قال هنا : { رَغَدًا } دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا ، فناسب ذكر الإنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك .
الخامس : قال هنا : { ادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } وهناك بالعكس ، لأن الواو لمطلق الجمع ، وأيضاً المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين ، والبعض الآخر ما كانوا كذلك ، فالمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدماً على اشتغاله بالعبادة ، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا : ( حطة ) ثم يدخلوا وأما الذي لا يكون مذنباً ، فالأولى به أن يشتغل أولاً : بالعبادة ثم يذكر التوبة . ثانياً : للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أن يدخلوا ثم يقولوا فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين ، لا جرم/ ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى . السادس : قال هنا : { وَسَنَزِيدُ } بالواو وهناك بدونه ، إذ جعل هنا المغفرة مع الزيادة جزاءاً واحداً لمجموع الفعلين ، وأما هناك فالمغفرة جزاء قول ( حطة ) والزيادة جزاء الدخول فترك ( الواو ) يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين .
السابع : قال هناك : { الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 162 ] وهنا لم يذكر ( منهم ) لأن أول القصة هناك مبني على التخصيص ب { مِنْ } حيث قال : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق } [ الأعراف : 159 ] فخص في آخر الكلام ليطابق أوله ، ولما لم يذكر في الآيات التي قبل { فَبَدَّلَ } هنا تمييزاً وتخصيصاً لم يذكر في آخر القصة ذلك . الثامن : قال هنا : { فَأَنزَلْنَا } وهناك { فَأَرْسَلْنَا } [ الأعراف : 162 ] لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسليطه عليهم واستئصاله لهم ، وذلك يكون بالآخرة . التاسع : قال هنا : { فَكُلُواْ } [ البقرة : 8 5 ] بالفاء وهناك بالواو لما مر في { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا } [ البقرة : 5 3 ] وهو أن كل فعل عطف عليه شيء وكان الفعل بمنزلة الشرط ، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو فلما تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة : { فَكُلُواْ } ولما لم يتعلق الأكل بالسكون في الأعراف ( 161 ) قيل : { وَكُلُواْ } . العاشر : قال هنا : { يَفْسُقُونَ } وهناك { يَظْلِمُونَ } [ الأعراف : 162 ] لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلماً اكتفى بلفظ الظلم هناك انتهى . ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر ، أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولاً كما أنها متقدمة عليها ترتيباً وليس كذلك ، فإن سورة البقرة كلها مدنية ، وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية } إلى قوله تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل } [ الأعراف : 163 171 ] وقوله تعالى : { اسكنوا هذه القرية } [ الأعراف : 161 ] داخل في الآيات المكية ، فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة . وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق الأكل بالسكون لأنهم إذا سكنوا القرية ، تتسبب سكناهم للأكل منها كما ذكر الزمخشري ، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها ، فحينئذ لا فرق بين { كُلُواْ } و{ فَكُلُواْ } فلا يتم الجواب ، وأما الثالث فلأنه تعالى وإن قال في الأعراف ( 161 ) { وَإِذْ قِيلَ } لكنه قال في السورتين : { نَّغْفِرْ لَكُمْ } [ البقرة : 58 ، الأعراف : 161 ] وأضاف الغفران إلى نفسه ، فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين جمع الكثرة بل لا شك أن رعاية { نَّغْفِرْ لَكُمْ } أولى من رعاية { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } لتعلق الغفران بالخطايا كما لا يخفى على العارف بالمزايا . وأما الرابع فلأنه تعالى وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى لكنه مسند إليه في نفس الأمر ، فينبغي أن يذكر الإنعام الأعظم في السورتين .
وأما الخامس فلأن القصة واحدة ، وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق ، فعلى مقتضى ما ذكر ينبغي أن يذكر { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } مقدماً في السورتين . وأما السادس فلأن القصة واحدة ، وأن الواو لمطلق الجمع ، وقوله تعالى : { نَّغْفِرْ } في مقابلة { قُولُواْ } سواء قدم أو أخر ، وقوله تعالى : { وَسَنَزِيدُ } [ البقرة : 85 ] في مقابلة { وادخلوا } [ الأعراف : 161 ] سواء ذكر الواو أو ترك ، وأما السابع فلأنه تعالى قد ذكر هنا قبل { فَبَدَّلَ } [ البقرة : 59 ] ما يدل على التخصيص والتمييز ، حيث قال سبحانه : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم } [ البقرة : 57 ] الخ بكافات الخطاب وصيغته فاللائق حينئذ أن يذكر لفظ ( منهم ) أيضاً ، والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حكاها ما ذكره الزمخشري من أنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض ، ولا تناقض بين قوله تعالى : { اسكنوا هذه القرية } [ الأعراف : 161 ] وقوله : { وَكُلُواْ } [ الأعراف : 161 ] لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها ، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها ، وسواء قدموا ( الحطة ) على دخول الباب أو أخروها ، فهم جامعون في الإيجاد بينهما ، وترك ذكر الرغد لا يناقض/ إثباته ، وقوله تعالى : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم سَنَزِيدُ المحسنين } [ الأعراف : 161 ] موعد بشيئين بالغفران والزيادة ، وطرح الواو لا يخل لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل : ماذا بعد الغفران ؟ فقيل له : { سَنَزِيدُ المحسنين } وكذلك زيادة { مِنْهُمْ } زيادة بيان و{ فَأَرْسَلْنَا } [ الأعراف : 162 ] و{ أَنزَلْنَا } [ البقرة : 7 5 ] و{ يَظْلِمُونَ } [ الأعراف : 162 ] و{ يَفْسُقُونَ } [ البقرة : 9 5 ] من دار واحد ، انتهى .
وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء ، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى ، والقرآن الكريم مملوء من ذلك ، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني ، والله يؤتي فضله من يشاء ، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو .
( ومن باب الإشارة ) { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } أنفسهم وأضاعوها ووضعوها في غير موضعها اللائق بها { قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } ابتغاءاً للحظوظ الفانية والشهوات الدنية . { فَأَنزَلْنَا } [ البقرة : 9 5 ] على الظالمين خاصة ، عذاباً وظلمة وضيقاً في سجن الطبيعة ، وأسراً في وثاق التمني ، وقيد الهوى ، وحرماناً ، وذلاً بمحبة الماديات السفلية ، والإعراض عن هاتيك التجليات العلية ، وذلك من جهة قهر سماء الروح ، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة القلب الذي لا يأمر إلا بالهدى كما ورد في الأثر «استفت قلبك وإن أفتاك المفتون » إلى طاعة النفس الأمارة بالسوء . وهذا هو البلاء العظيم ، والخطب الجسيم .
من كان يرغب في السلامة فليكن *** أبداً من الحدق المراض عياذه