روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (139)

{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } أخرج الواحدي عن ابن عباس أنه قال : «انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريدون أن يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر فأنزل الله تعالى هذه الآية : وثاب نفر من المسلمين فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم » وعن الزهري وقتادة أنها نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح . وعن الكلبي أنها نزلت بعد يوم أحد حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم وقال صلى الله عليه وسلم : «لا يخرج إلا من شهد معنا بالأمس فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله هذه الآية » ، وأياً ما كان فهي معطوفة على قوله تعالى : { فَسِيرُواْ فِى الأرض } [ آل عمران : 137 ] بحسب اللفظ ومرتبطة به بحسب المعنى إن قلنا إنه عود إلى التفصيل ، وبما تقدم من قصة أحد إن لم نقل ذلك وبه قال جمع ، وجعلوا توسيط حديث الربا استطراداً أو إشارة إلى نوع آخر من عداوة الدين ومحاربة المسلمين ، وبه يظهر الربط وقد مر توجيهه بغير ذلك أيضاً .

ومن الناس من جعل ارتباط هذه الآية لفظاً بمحذوف ، أي كونوا مجدين ولا تهنوا ، ومضى على الخلاف وهو تكلف مستغنى عنه ، والوهن الضعف أي لا تضعفوا عن قتال أعدائكم والجهاد في سبيل الله تعالى بما نالكم من الجراح ولا تحزنوا على ما أصبتم به من قتل الأعزة وقد قتل في تلك الغزوة خمسة من المهاجرين : حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله بن جحش ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان بن شماس ، وسعد مولى عتبة رضي الله تعالى عنهم ، وسبعون من الأنصار ، وقيل : لا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ولا يخفى بعده والظاهر أن حقيقة النهي غير مرادة هنا بل المراد التسلية والتشجيع وإن أريدت الحقيقة فلعل ذلك بالنسبة إلى ما يترتب على الوهن والحزن من الآثار الاختيارية أي لا تفعلوا ما يترتب على ذلك .

{ وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } جملة حالية من فاعل الفعلين أي والحال أنكم الأعلون الغالبون دون أعدائكم فإن مصيرهم مصير أسلافهم المكذبين فهو تصريح بعد الإشعار بالغلبة والنصر . حكى القرطبي أنهم «لم يخرجوا بعد ذلك ( عسكراً ) إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه الصلاة والسلام وكذا في كل عسكر كان بعد ، ولو لم يكن فيه إلا واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم » .

أو المراد والحال أنكم أعلى منهم شأناً فإنكم على الحق وقتالكم لإعلاء كلمة الله تعالى وقتلاكم في الجنة وأنهم على الباطل وقتالهم لنصرة كلمة الشيطان وقتلاهم في النار ، واشتراكهم على هذا في العلو بناءاً على الظاهر وزعمهم ، وإذا أخذ العلو بمعنى الغلبة لا يحتاج إلى هذا لما أن الحرب سجال وأن العاقبة للمتقين ، وقيل : المراد : وأنتم الأعلون حالاً منهم حيث أصبتم منهم يوم بدر أكبر مما أصابوا منكم اليوم .

ومن الناس من جوز كون الجملة لا محل لها من الإعراب وجعلها معترضة بين النهي المذكور وقوله سبحانه { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لأنه متعلق به معنى وإن كان الجواب محذوفاً أي إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه ، ولا يخفى أن دعوى التعلق مما لا بأس بها ، لكن الحكم بكون تلك الجملة معترضة معترض بالبعد ، ويحتمل أن يكون هذا الشرط متعلقاً بالأعلون والجواب محذوف أيضاً أي إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون فإن الإيمان بالله تعالى يقتضي العلو لا محالة ، ويحتمل أن يراد بالإيمان ، التصديق بوعد الله تعالى بالنصرة والظفر على أعداء الله تعالى ، ولا اختصاص لهذا الاحتمال بالاحتمال الأخير من احتمالي التعلق كما يوهمه صنيع بعضهم ، وعلى كل تقدير المقصود من الشرط هنا تحقيق المعلق به كما في قول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني أجري ، أو من قبيل قولك لولدك : إن كنت ابني فلا تعصني ، وحمل بعضهم الشرط على التعليل أي لا تهنوا ولا تحزنوا لأجل كونكم مؤمنين ، أو وأنتم الأعلون لأجل ذلك والقول بأن المراد إن بقيتم على الإيمان ، ليس له كمال ملاءمة للمقام .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَلاَ تَهِنُواْ } أي لا تضعفوا في الجهاد { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما فاتكم من الفتح ونالكم من قتل الأخوان { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } في الرتبة { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] أي موحدين حيث إن الموحد يرى الكل من مولاه فأقل درجاته الصبر .