مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (139)

قوله تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }

اعلم أن الذي قدمه من قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } وقوله : { هذا بيان للناس } [ آل عمران : 138 ] كالمقدمة لقوله : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة ، لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور ، وصارت دولة أهل الحق عالية ، وصولة أهل الباطل مندرسة ، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سببا لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم ، بل يجب أن يقوى قلبكم فان الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة إليكم .

ثم نقول قوله : { ولا تهنوا } أي لا تضعفوا عن الجهاد ، والوهن الضعف قال تعالى : حكاية عن زكريا عليه السلام { إني وهن العظم منى } وقوله : { ولا تحزنوا } أي على من قتل منكم أو جرح وقوله : { وأنتم الأعلون } فيه وجوه : الأول : أن حالكم أعلى من حالهم في القتل لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد ، وهو كقوله تعالى : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا } أو لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان ، أو لأن قتالهم للدين الباطل وقتالكم للدين الحق ، وكل ذلك يوجب كونكم أعلى حالا منهم . الثاني : أن يكون المراد وأنتم الأعلون بالحجة والتمسك بالدين والعاقبة الحميدة . الثالث : أن يكون المعنى وأنتم الأعلون من حيث إنكم في العاقبة تظفرون بهم وتستولون عليهم وهذا شديد المناسبة لما قبله ، لأن القوم انكسرت قلوبهم بسبب ذلك الوهن فهم كانوا محتاجين إلى ما يفيدهم قوة في القلب ، وفرحا في النفس ، فبشرهم الله تعالى بذلك ، فأما قوله : { إن كنتم مؤمنين } ففيه وجوه : الأول : وأنتم الأعلون إن بقيتم على إيمانكم ، والمقصود بيان أن الله تعالى إنما تكفل بإعلاء درجتهم لأجل تمسكهم بدين الإسلام . الثاني : وأنتم الأعلون فكونوا مصدقين لهذه البشارة إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة . والثالث : التقدير : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، فإن الله تعالى وعد بنصرة هذا الدين ، فإن كنتم من المؤمنين علمتم أن هذه الواقعة لا تبقى بحالها ، وأن الدولة تصير للمسلمين والاستيلاء على العدو يحصل لهم .