بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (139)

{ وَلاَ تَهِنُواْ } : أي لا تضعفوا ولا تجبنوا ، ويقال : ولا تَعْجزوا عن عدوكم ، { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما أصابكم من القتل والهزيمة يوم أحد ، { وَأَنتُمُ الأعلون } يعني : الغالبون يقول آخر الأمر لكم . ويقال : { وَأَنتُمُ الأعلون } في الجنة . ويقال : هذا وعد لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في المستأنف ، { وَأَنتُمُ الأعلون } : أي الغالبون على الأعداء بعد أحد ، فلم يخرجوا بعد ذلك في عسكر إلا ظفروا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا كان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم ، فهذه البلدان كلها إنما فتحت في عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد انقراضهم ما فتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتحون في ذلك الوقت . ويقال : في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة ، لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه لأنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام : { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } [ طه : 68 ] وقال لهذه الأمة : { وَأَنتُمُ الأعلون } ويقال اشتُقَّت هذه اللفظة من اسم الله تعالى ، لأن اسمه العلي الأعلى . وقال للمؤمنين : { وَأَنتُمُ الأعلون إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني : إن كنتم مصدقين بوعد الله . ويقال : معناه إذ كنتم مؤمنين . ويقال : في الآية تقديم وتأخير ، فكأنه قال : ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون .

ويقال : إن هذا وعد لهم بأنهم غالبون إن ثبتوا وصدقوا ، فلو أنهم ثبتوا وصدقوا لغَلَبُوا كما غَلَبوا يوم بدر ، ولكنهم تركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع الأمر عليهم . وكانت القصة في ذلك أنهم لما غَلَبُوا المشركين يوم بدر ، وأصابوا منهم ما أصابوا وسنذكر قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى فرجع أبو سفيان بن حرب إلى مكة بالعير ، وانهزم المشركون ، وذهب عكرمة بن أبي جهل ، ورجال أُصِيب أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم ببدر إلى أبي سفيان بن حرب وهو رئيس مكة فكلموه ، وأتاه كل من كان له في ذلك العير مال ، فقالوا : إن محمداً قد قتل خياركم ، فاستعينوا بهذه الأموال على حربه ففعلوا . قال الضحاك : فأعانهم أبو سفيان بمائة راحلة وما يصلحها من الزاد والسلاح ، فسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل ، وعليهم أبو سفيان بن حرب ، وكان في القوم خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعكرمة بن أبي جهل ، وذلك قبل دخولهم في الإسلام ، فلم يبقَ أحد من قريش إلا وخرج أهله معه وولده يجعلهم خلف ظهره ليقاتل عنهم .

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس ، وقال في خطبته : « إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ فِي سَيْفِي ثلمَةُ فَأَوَّلْتُهَا مصِيبَةً فِي نَفْسِي ، وَرَأَيْتُ بُقُوراً قَدْ ذُبِحَتْ ، فَأَوَّلْتُهَا قَتْلَى فِي أَصْحَابِي ، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ ، فَأَوَّلْتُهَا المَدِينَةَ فَأَشِيرُوا عَلَيَّ » وكره الخروج إليهم ، فكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يخرج إليهم ، ولكنه كان منافقاً فقال : يا رسول الله لا تخرج إليهم فأنا ما خرجنا إلى عدوّ قط إلا أصاب منا ، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه . فقال رجال من المسلمين ممن أكرمهم الله بالشهادة وغيرهم ممن فاتته بدر : اخرج لهم يا رسول الله ، لكي لا يرى أعداء الله أنا قد جَبُنَّا عنهم وضعفنا عن قتالهم . فلم يزالوا به حتى دخل ولبس لأمته ، ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم وقد خرج الناس فقالوا : استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا : يا رسول الله : قد استكرهناك وما كان لنا ذلك ، فإن شئت فاخرج ، وإن شئت فاقعد . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « مَا يَنْبَغِي لِلنَّبِيِّ أَنْ يَضَعَ سِلاَحَهُ إِذَا لَبِسَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ » فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسار إلى أُحدٍ ، فانخذل عبد الله بن أبي ابن سلول . قال في رواية الكلبي : فرجع معه ثلاثمائة من الناس ، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو سبعمائة رجل . وقال في رواية الضحاك : فانخذل في ستمائة رجل من اليهود ، وبقي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ألف رجل من المؤمنين الطيبين . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشِّعب من أحد ، وأمر عبد الله بن جبير على الرُّمَاة وقال لهم : « لاَ تَبْرَحُوا مِنْ هَذَا المَوْضِعِ ، وَاثْبُتُوا هاهنا إِنْ كَانَ الأَمْرُ عَلَيْنَا أَوْ لَنَا » وقال في رواية الكلبي : كان الرماةُ خمسين رجلاً . وقَال في رواية الضحاك : كانوا سبعين رجلاً . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره إلى أُحد ، ودنا المشركون وأخذوا في الحرب ، فقامت هند امرأة أبي سفيان وصواحبتها حين حميت الحرب ، يضربن بالدُّفوف خلف قريش ويقلن :

نَحْنُ بَنَاتُ طَارِق . . . نَمْشِي على النَّمَارق

إِن تُقْبِلُوا نُعَانِق . . . أَو تُدْبِرُوا نفارق

فِرَاقَ غَيْرَ وَامِق . . . فقاتل أبو دجانة في نفر من المسلمين قتالاً شديداً ، وقاتل علي بن أبي طالب حتى انكسر سيفه ، وقاتل سعد بن أبي وقاص ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لسعد : « ارْمِ فَداكَ أَبِي وَأُمِّي » فقتلوا جماعة من المشركين ، وَصَدَقَهم الله وعده وأنزل نصره ، حتى كانت هزيمة القوم لا شكّ .

فكشفوهم عن عسكرهم قال الزبير : رأيت هنداً وصواحبتها هوارب ، فلما نظر الرماة إلى القوم وانهزموا ، أقبلوا على النهب فقال لهم عبد الله بن جُبَيْر : لا تَبْرحوا عن هذا الموضع ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عَهِدَ إليكم . فلم يلتفتوا إلى قوله ، وظنوا أن المشركين قد انهزموا ؛ فبقي عبد الله بن جبير مع ثمانية نفر ، فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتي فارس من قِبَل الشِّعب ، فقتلوا من بقي من الرماة ، ودخلوا خلف أقفية المسلمين ، وتفرق المسلمون ورجع المشركون ، وحملوا حملةً واحدة ، فصار المسلمون ثلاثة أنواع : بعضهم جريح ، وبعضهم قتيل ، وبعضهم منهزم .

وكان مصعب بن عمير يَذُبُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتِلَ دونه ، ثم قاد زياد بن السكن فقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتِلَ ، وخلص الحرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقذف بالحجارة حتى وقع بشفتيه ، وأصيبت رباعيَتُه ، وكُلِمَتْ شفته ، وأدمي ساقه . فقال سفيان بن عيينة : لقد أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين رجلاً ، كلهم جثوا بين يديه . أو قال : كلهم يتقدم بين يديه . ثم يقول : وجهي لوجهك الوفاء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك سلام الله غير مودع . فرجع الذي قتل مصعب بن عمير ، فظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال للمشركين : قتلت محمداً . فصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قُتل . ويقال : كان ذلك إبليس لعنه الله ، فولى المسلمون هاربين متحيّرين ، وجاء إبليس لعنه الله ونادى بأعلى صوته في المدينة : ألا إن محمداً قد قتل وأَخَذَت النسوة في البكاء في البيوت ، فأقبل أَنَس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله في رِجَالٍ من المهاجرين والأنصار ، فقال : ما يُجْلسكم ؟ قالوا : قتل محمد . فقال : ما تصنعون بالحياة بعده ؟ موتوا كراماً على ما مات عليه نبيُّكم . ثم أقبل نحو العدو ، فقاتل حتى قتل .

قال كعب بن مالك : فأوّل من كنت عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ، عرفت عينيه من تحت المغفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأشار إليَّ أَن اسكت . وقال أنس بن مالك : قد شجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول : « كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِالدَّمِ » وهو يدعوهم إلى ربهم . ويقال : إن أصحابه لما اجتمعوا قالوا : يا رسول الله ، لو دعوت الله على هؤلاء الذين صنعوا بك ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لَمْ أُبْعَثْ طَعَّاناً وَلاَ لَعَّاناً ، وَلَكِن بُعِثْتُ دَاعِياً وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ »

فجاءه أُبَيّ بن خلف الجمحي ، فقال : يا محمد لا نَجوتُ إن نجوتَ مني . فهمَّ المسلمون بقتله ، فقال لهم . «دَعُوهُ » حتى دنا منه ، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ورماه بها ، فخدشه في عنقه خدشاً غير كبير ، وقد كان ذلك لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقال : عندي فرس أعلفه كل يوم فرق ذرة ، أقتلك عليه . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ الله " فلما خدشه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقه رجع إلى قريش وهو يقول : قتلني محمد . فقالوا له : ما بك من طعن . فقال : بلى ، لقد قال لي أنا أقتلك ، والله لو بصق علي بعد تلك المقالة لقتلني . فمات قبل أن يصل إلى مكة في طريقها .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً عند أحد ، وقد اجتمع عليه بعض أصحابه ، فعلت عليه فرقة من قريش في الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا " فأقبل عمر ورهط من المهاجرين ، فقاتلوهم حتى أهبطوهم من الجبل . وقد كان جبير بن مطعم قال لمملوك له يقال له وحشي : إن أنت قتلت محمداً جعلت لك أعنة الخيل ، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلت لك مائة ناقة كلها سود الحدقة ، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حرٌّ . فقال وَحْشي : أما محمد فعليه حافظ من الله تعالى لا يخلص إليه أحد ، وأما عَلَيُّ فما برز إليه رجل إلا قتله ؛ وأما حمزة فرجل شجاع ، فعسى أن أُصَادفه في غِرَّته فاقتله مكانه . وكانت هند كلما مرّ بها وَحْشي أو مرّت به هند قالت له : إيهاً أبا دسمة اشف واستشف . فكمن وحشي خلف صخرة ، وكان حمزة حمل على قوم من المشركين ، فلما رجع من حملته مرّ بوحشي وهو خلف الصخرة ، فزرقه بمزراق فأصابه فسقط ، فذهبت هند ابنة عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى ، يجدعن الآذان والأنوف ، وشَقَّت هند بطن حمزة وأخذت كبده ومضغته ، ثم صعدت هند على صخرة وهي تنادي بأعلى صوتها : نَحْنُ جَزَيْنَاكم بيوم بَدْر . وأقبل أبو سفيان وهو يصرخ بأعلى صوته : اعلُ هبل يوماً بيوم بدر . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر : " أَجِبْهُ يَا عُمَرَ " فأجابه عمر : الله أعلى وأجل لا سواه ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار .

ثم ركب النبيّ صلى الله عليه وسلم بغلته ، وظاهر بين درعيه ، وأخرج يده من جيب الدرع ، وسلّ سيفه ذا الفقار ، وباشر القتال بنفسه ، وحمل على المشركين والتأم إليه المسلمون فأعانوه ، وهزم الله جمع المشركين ، وقُتل يومئذ من المسلمين سبعون رجلاً : أربعة نفر من المهاجرين ، وستة وستون من الأنصار .

وقتل يومئذ من المشركين تسعة عشر رجلاً أو أكثر ، وكثرت القروح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعزَّاهم الله تعالى : في ذلك بقوله تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } .