اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (139)

الأصل : تُوْهِنوا ، فحُذِفت الواو ؛ لوقوعها بين تاء وكسرة في الأصل ، ثم أجْريت حروف المضارعة مُجْراها في ذلك ، ويقال : وَهَنَ - بالفتح في الماضي - يَهِنُ - بالكسر في المضارع .

ونُقِلَ أنه يُقال : وَهُن ، ووَهِنَ - بضم الهاء وكسر في الماضي - و " وَهَنَ " يُستعمل لازماً ومتعدياً ، تقول : وَهَنَ زيدٌ ، أي : ضَعُفَ ، قال تعالى : { وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } [ مريم : 4 ] ، ووَهَنْتُه وأضعفته ، ومنه الحديث : " وَهَنْتُهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ {[5972]} " ، والمصدر على الوهَن - بفتح الهاء وسكونها .

وقال زهير : [ البسيط ]

. . . *** فَأصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِناً خَلَقَا{[5973]}

أي : ضعيفاً .

قوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } جملة حالية من فاعل { تَهِنُوا } ، أو { تَحْزَنُوا } ، والاستئناف فيها غير ظاهر ، و { الأَعْلَوْنَ } جمع أعْلَى ، والأصل : أعْلَيَوْنَ ، فتحرَّكت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقُلبَت ألفاً فحُذِفت لالتقاء الساكنين ، وبقيَت الفتحةُ لتدلَّ عليها .

وإن شئت قُلْتَ : استثقلت الضمةُ على الياء ، فحُذِفت ، فالتقى ساكنان أيضاً - الياء والواو - فحُذِفتَ الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، وإنَّما احتجنا إلى ذلك ؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموماً ، لفظاً ، أو تقديراً . وهذا من مثال التقدير .

فصل

اعلم أن الآياتِ المتقدمة ، كالمقدمة لهذه الآية ، كأنه قال : إن بحثتم عن أحوال القرون الماضية ، علمتم أن أهل الباطل ، وإن اتفقت لهم [ الصَّولة ] ، فمآل أمْرهم إلى الضَّعْف ، ومآل أهل الحق إلى العُلُو والقوة ، فلا ينبغي أن تصير صَولَةُ الكفَّار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلوبكم ، وهذا حَثٌّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد على ما أصابهم من القتل ، والجراح يوم أُحُد ، يقول : { وَلاَ تَهِنُوا } أي : لا تضعُفوا ولا تجبنُوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح ، { وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي : تكون لكم العاقبة بالنصر والظَّفَر ، وهذا مناسب لما قبله ، لأن القومَ انكسرت قلوبُهم بذلك الوَهْن ، فكانوا محتاجين إلى ما يُقَوِّي قلوبهم .

وقيل : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي : أن حالكم أعلى من حالهم في القتل ، لأنكم أصَبْتُم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أُحُد ، وهو كقوله : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } [ آل عمران : 165 ] أو لأن قتالكم لله تعالى ، وقتالهم للشيطان ؛ أو لأن قتالكم للدين الحق ، وقتالهم للدين الباطل ، فكل ذلك يُوجِب أن تكونوا أعْلَى حالاً منهم .

وقيل : " وأنتم الأعلون بالحجة " .

قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف .

فقيل : تقديره : فلا تَهِنُوا ولا تحزنوا .

وقيل : تقديره : إن كنتم مؤمنين علمتم أن هذه الموقعةَ لا تَبْقَى بحالها ، وأن الدولة تصير للمسلمين .

فصل

معنى : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : بقيتم على إيمانكم .

وقيل : وأنتم الأعلون فكونوا مصدِّقين بما يَعِدُكم الله ، ويُبَشِّركم به من الغَلَبَة .

وقيل : إن كنتم مؤمنين ، معناه : إذا كنتم مؤمنين ، أي : لأنكم مؤمنون .

وقال ابنُ عباس : " انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فأقبل خالدُ بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يَعْلُوَ عليهم الجبلَ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا يَعْلُونَّ عَلَيْنَا ، اللهُمَّ لا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ " ، وثاب نَفَرٌ من المسلمين ، رُماة ، فصعدوا الجبل ورموا خَيْلَ المشركين ، حتى هزموهم ، فذلك قوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } " {[5974]} .

وقال الكلبيُّ : نَزَلَتْ هذه الآية بعد يوم أُحُد ، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم - مع ما أصابهم من الجراح - فاشتدَّ ذلك على المسلمين ، فأنزل الله هذه الآية{[5975]} ؛ دليله قوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ } [ النساء : 104 ] .


[5972]:أخرجه البخاري كتاب الحج ب 55، كتاب المغازي ب 43 ومسلم كتاب الحج رقم 240 وأبو داود كتاب المناسك ب 50 والنسائي كتاب المناسك 55 وأحمد (1/290، 295، 306، 373).
[5973]:عجز بيت والبيت بتمامه: وأخلقتك ابنة البكري ما وعدت *** فأصبح الحبل منها واهنا خلقا ينظر ديوانه (34) وأشعار الشعراء الجاهيين 1/303 والبحر المحيط 3/61 والدر المصون 2/214.
[5974]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/236) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس. وأخرجه أيضا (7/234) عن ابن جريج وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/140) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
[5975]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/234) عن الزهري.