{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير لما ولما علم المتكلم أن مدلولها مؤنث جاز له تأنيث الضمير العائد إليه وإن كان اللفظ مذكراً ، وأما التأنيث في قوله تعالى : { قَالَتْ رَبّ أنى وَضَعْتُهَا أنثى } فليس باعتبار العلم بل باعتبار أن كل ضمير وقع بين مذكر ومؤنث هما عبارتان عن مدلول واحد جاز فيه التذكير والتأنيث نحو الكلام يسمى جملة ، و { أنثى } حال بمنزلة الخبر فأنث العائد إلى ( ما ) نظراً إلى الحال من غير أن يعتبر فيه معنى الأنوثة ليلزم اللغو أو باعتبار التأويل بمؤنث لفظي يصلح للمذكر والمؤنث كالنفس ، والحبلة ، والنسمة ، فلا يشكل التأنيث ولا يلغو { أنثى } بل هي حالة مبينة كذا قيل ولا يخلو عن نظر ، فالحق أن الضمير لما في بطني والتأنيث في الأول لما أن المقام يستدعي ظهور أنوثته واعتباره في حيز الشرط إذ عليه يترتب جواب ( لما ) لا على وضع ولد مّا ، والتأنيث في الثاني للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء وانقطاع حبل الأمل ، و { أنثى } حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه ، وليس الغرض من هذا الكلام الإخبار لأنه إما للفائدة أو للازمها ، وعلم الله تعالى محيط بهما بل لمجرد التحسر والتحزن ، وقد قال الإمام المرزوقي : إنه قد يرد الخبر صورة لأغراض سوى الإخبار كما في قوله :
قومي هم قتلوا أميم أخي *** فإذا رميت ( يصيبني سهمي )
فإن هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار ، وحاصل المعنى هنا على ما قرر ، فلما وضعت بنتاً تحسرت إلى مولاها وتفجعت إذ خاب منها رجاها وعلى هذا لا إشكال أصلاً في التأنيث ولا في الجزاء نفسه ، ولا في ترتبه على الشرط ، وما قيل : إنه يحتمل أن يكون فائدة هذا الكلام التحقير للمحرر استجلاباً للقبول لأنه من تواضع لله تعالى رفعه الله سبحانه فمستحقر من القول بالنسبة إلى ما ذكرنا ؛ والتأكيد هنا قيل : للرد على اعتقادها الباطل وربما أنه يعود إلى الاعتناء والمبالغة في التحسر الذي قصدته والرمز إلى أنه صادر عن قلب كسير وفؤاد/ بقيود الحرمان أسير .
{ والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } ليس المراد ، الرد عليها في إخبارها بما هو سبحانه أعلم به كما يتراءى من السياق بل الجملة اعتراضية سيقت لتعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه والتجهيل لها بقدره أي والله أعلم بالشيء الذي وضعته وما علق به من عظائم الأمور ودقائق الأسرار وواضح الآيات ، وهي غافلة عن ذلك كله ، و ( ما ) على هذه عبارة عن الموضوعة ، قيل : والإتيان بها دون من يلائم التجهيل فإنها كثيراً ما يؤتى بها لما يجهل به وجعلها عبارة عن الواضعة أي والله تعالى أعلم بشأن أم مريم حين تحسرها وتحزنها من توهم خيبة رجاها وأنها ليست من الولي إلى الله تعالى في شيء إذ لها مرتبة عظمى وتحريرها تحرير لا يوجد منه مما لا وجه له ، وجزالة النظم تأباه ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { بِمَا وَضَعَتْ } على خطاب الله تعالى لها ، والمراد به تعظيم شأن الموضوع أيضاً أي إنك لا تعلمين قدر ما وضعته وما أودع الله تعالى فيه .
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب { بِمَا وَضَعَتْ } على أنه من كلامها قالته اعتذاراً إلى الله تعالى حيث وضعت مولوداً لا يصلح للغرض ، أو تسلية لنفسها ، أي ولعل لله تعالى في ذلك سراً وحكمة ولعل هذه الأنثى خير من الذكر فالجملة حينئذ لنفي العلم لا للتجهيل لأن العبد ينظر إلى ظاهر الحال ولا يقف على ما في خلاله من الأسرار ، وحمل قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على هذا المعنى بجعل الخطاب منها لنفسها في غاية البعد ، ووضع الظاهر موضع ضمير المخاطب إظهاراً لغاية الإجلال .
{ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } اعتراض آخر مبين لما اشتمل عليه الأول من التعظيم وليس بياناً لمنطوقه حتى يلحق بعطف البيان الممتنع فيه العطف . واللام في الذكر والأنثى للعهد ، أما التي في الأنثى فلسبق ذكرها صريحاً في قوله سبحانه حكاية : { إني وَضَعْتُهَا أنثى } وأما التي في الذكر فلقولها : { إِنّي نَذَرْتُ } [ آل عمران : 35 ] الخ إذ هو الذي طلبته والتحرير لا يكون إلا للذكر وسمي هذا العهد التقديري وهو غير الذهني لأن قولها : { مَا في بَطْنِي } [ آل عمران : 35 ] صالح للصنفين ، وقولها : { مُحَرَّرًا } [ آل عمران : 35 ] تمن ؛لأن يكون ذكراً فأشير إلى ما في البطن حسب رجائها ، وجوز أن تكون الجملة من قولها فيكون مرادها نفي مماثلة الذكر للأنثى ، فاللام للجنس كما هو الظاهر لأنه لم يقصد خصوص ذكر وأنثى بل إن المراد أن هذا الجنس ليس كهذا الجنس ، وأورد عليه أن قياس كون ذلك من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر والعادة في مثله أن ينفى عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس ، وأجيب بأنه جار على ما هو العادة في مثله أيضاً لأن مراد أمّ مريم ليس تفضيل الذكر على الأنثى ، بل العكسن تعظيماً لعطية الله تعالى على مطلوبها أي وليس الذكر الذي هو مطلوبي كالأنثى التي وهبها الله تعالى لي علماً منها بأن ما يفعله الرب خير مما يريده العبد وفيه نظر أما أولاً : فلأن اللام في الذكر والأنثى على هذا يكون للعهد وهو خلاف الظاهر الذي ذهب إليه أكثر المفسرين ، وأما ثانياً : فلأنه ينافي التحسر والتحزن المستفاد من قولها : { رَبّ إني وَضَعْتُهَا أنثى } فإن تحزنها ذلك إنما هو لترجيحها الذكر على الأنثى ، والمفهوم من هذا الجواب ، ترجيحها الأنثى على الذكر اللهم إلا أن يحمل قولها ذلك على تسلية نفسها بعد ما تحزنت على هبة الأنثى بدل الذكر الذي كانت طلبته إلا أنه تبقى مخالفة الظاهر على ما هي ، فالأولى في الجواب ، عدم الخروج عما هو الظاهر والبحث فيما اقتضته العادة فقد قال في «الانتصاف » بعد نقل الإيراد وذكر القاعدة : وقد وجدت الأمر في ذلك مختلفاً فلم يثبت لي تعين ما قالوه ألا ترى إلى قوله تعالى :
{ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء } [ الأحزاب : 32 ] فنفى عن الكامل شبه الناقص لأن الكمال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران ومنه أيضاً { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] انتهى .
/ وتمام الكلام في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين أنه إذا دخل نفي بلا أو غيرها ، أو ما في معناه على تشبيه مصرح بأركانه ، أو ببعضها احتمل معنيين تفضيل المشبه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه بكذا لأن وجه الشبه فيه أولى وأقوى كقولك ليس زيد كحاتم في الجود ويحتمل عكسه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه به لبعد المسافة بينهما كقول العرب ماء ولا كصداء ، ومرعى ولا كالسعدان ، وفتى ولا كمالك وقوله :
طرف الخيال ولا كليلة مدلج *** ووقع في شروح «المقامات » وغيرها أن العرب لم تستعمل النفي بلا على هذا الوجه إلا للمعنى الثاني وأن استعماله لتفضيل المشبه من كلام المولدين حتى اعترضوا على قول الحريري في قوله :
غدوت ولا اغتداء الغراب *** وعِيب قول صاحب «التلويح » في خطبته : نال حظاً من الاشتهار ولا اشتهار الشمس نصف النهار ، ومبنى الاعتراض على هذا ، ولعله ليس بلازم كما أشار إليه صاحب «الانتصاف » بما أورد منه الآيات ، ومما أورده الثعالبي من خلافه أيضاً في كتابه «المنتخب » فلا حسن ولا القمر ، وجواد ولا المطر على أنه لو سلم ما ذكروه فالمعاني لا حجر فيها على أن ما ورد في النفي بلا المعترضة بين الطرفين لا في كل نفي انتهى . وهو كما قال : من نفائس المعاني التي ينبغي حفظها .
وقوله تعالى : { وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } عطف على { إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } المنصوبة المحل على المفعولية للقول وما بينهما كما علمت اعتراض بجملتين غير محكيتين ، الثانية من تتمة الأولى معنى على ما بين ولهذا أجراه البعض مجرى الاعتراض في الاعتراض فجعله نظير قوله تعالى : { أَنَّهُ * لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] . واعترض بأنه كيف يجوز الاعتراض بين كلامي أم مريم وكلام متكلم لا يجوز أن يكون معترضاً بين كلامي متكلم آخر ، وأجيب بأن كلام أم مريم من كلام الله تعالى نقلاً عن أم مريم ولا بعد في أن يكون كلامه تعالى اعتراضاً بين كلاميها اللذين هما من كلام الله تعالى نقلاً عنها ، هذا على تقدير أن لا تكون تانك الجملتان من كلام أم مريم أما إذا كانتا من كلامها بناءاً على ما سبق من القراءة والاحتمال فلا اعتراض .
قيل : والغرض من عرضه التسمية على علام الغيوب التقرب إليه تعالى واستدعاء العصمة لها فإن مريم في لغتهم بمعنى العابدة ولا يخفى بعده ؛ إذ مجرد ذكر تسميتها مريم لا يكاد يكون مقرباً لها إليه تعالى لأن التقرب إليه تعالى إنما يكون بسبب العبادة ومجرد عرض التسمية ليس بعبادة فكيف يكون مقرباً اللهم إلا أن يقال : إن التقرب إلى الله تعالى بحبها للعبادة الذي أشعر به تسميتها بنتها عابدة ، أو اعتقاد أن الله تعالى مستعاذ يجير من يستعيذ به عما يخافه .
واعترض بأن هذا لا يدفع الشبهة بل هي باقية أيضاً لأن المقرب حينئذٍ ما في القلب من الحب والاعتقاد لا عرض ذلك على من لا تخفى عليه خافية ، والأولى أن يقال : إن الغرض من ذلك إظهار أنها غير راجعة عن نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها وإن لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه واستقلالها بالتسمية لكون أبيها قد مات وأمها حامل بها فتقديم المسند إليه للتخصيص يعني التسمية مني لا يشاركني فيها أبوها ، قيل : وفي ذلك تعريض بيتمها استعطافاً له تعالى وجعلاً ليتمها شفيعاً لها ، والقول بأن فائدة عرض تسميتها ، التحسر والتحزن أيضاً أي إني سميتها لا أبوها لعدم احتفاله بها والتفاته إليها لكراهة الرجال في الغالب البنات فمع أنه خلاف ما دل عليه أكثر الآثار ونطق به غالب الأخبار من موت أبيها وهي حمل يجر إلى ما ينبغي أن تنزه عنه ساحة الرجل الصالح عمران كما لا يخفى ، وقد تقدم الكلام في مريم وزناً ومعنى ، وقد اختار بعض المتأخرين أنها معربة مارية بمعنى جارية ويقرب أن يكون القول المعول عليه ، واستدل بالآية على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة لا يوم السابع لأن الظاهر أنها إنما قالت ذلك بإثر الوضع ، واستدل بتغاير المفعولين على/ تغاير الاسم والمسمى ، وقد تقدم البحث فيه
{ وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ } عطف على { إِنّى * سَمَّيْتُهَا } وأتى هنا بخبر إن فعلاً مضارعاً دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها وهذا بخلاف ( وضعتها ، وسميتها ) حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما وقدم المعاذ به على المعطوف الآتي اهتماماً به ، ومعنى { أُعِيذُهَا بِكَ } أمنعها وأجيرها بحفظك ، وأصل العوذ كما قال الراغب : الالتجاء إلى الغير والتعلق به يقال : عاذ فلان بفلان إذا استجار به ، ومنه أخذت العوذة وهي التميمة والرقية ؛ وقرأ أبو جعفر ونافع أني بفتح ياء المتكلم وكذا في سائر المواضع التي بعد الياء ألف مضمومة إلا في موضعين
{ بِعَهْدِي أُوفِ } [ البقرة : 40 ] و { اتُونِى أُفْرِغْ } [ الكهف : 96 ] و { *ذُرِّيَّتَهَا } عطف على الضمير المنصوب ، وفي التنصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها رمز إلى طلب بقائها حية حتى تكبر ، وطلب للتناسل منه هذا إذا أريد بالإعاذة { وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } أي المطرود ، وأصل الرجم الرمي بالحجارة الحفظ من إغوائه الموقع في الخطايا لأنه إنما يكون بعد البلوغ إذ لا تكليف قبله ، وأما إذا أريد منها الحفظ منه مطلقاً فيفهم طلب الأمرين من الأمر الأخير ، ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسه صارخاً إلا مريم وابنها " وفي بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينها حجاب وأن الشيطان أراد أن يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب ، وفي رواية إسحق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل ولد آدم ينال منه الشيطان يطعنه حين يقع بالأرض بإصبعه ولهذا يستهل ، إلا ما كان من مريم وابنها فإنه لم يصل إبليس إليهما " وطعن القاضي عبد الجبار بإصبع فكره في هذه الأخبار بأنها خبر واحد على خلاف الدليل ، وذلك أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز ولأنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين ، وأيضاً لم خص عيسى وأمه دون سائر الأنبياء ؟ وأنه لو وجد المس أو النخس لدام أثره وليس فليس ، والزمخشري زعم أن المعنى على تقدير الصحة أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين ، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى : { لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82 ، 83 ] واستهلاله صارخاً من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :
لما تؤذن الدنيا به من صروفها *** يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة النخس والمس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلون به من نخسه انتهى .
ولا يخفى أن الأخبار في هذا الباب كثيرة وأكثرها مدون في «الصحاح » والأمر لا امتناع فيه ، وقد أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام فليتلق بالقبول ، والتخييل الذي ركن إليه الزمخشري ليس بشيء لأن المس باليد ربما يصلح لذلك أما الاستهلال صارخاً فلا ، على أن أكثر الروايات لا يجري فيها مثل ذلك ، وقوله : لامتلأت الدنيا عياطاً قلنا : هي مليئة فما من مولود إلا يصرخ ، ولا يلزم من تمكنه من تلك النخسة تمكنه منها في جميع الأوقات كيف وفي «الصحيح » : «لولا أن الملائكة يحفظونكم لاحتوشتكم الشياطين كما يحتوش الذباب العسل » وفي رواية «لاختطفتكم الجن » وقسر قوله تعالى : { لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ } [ الرعد : 11 ] في أحد الوجوه به ، وبهذا يندفع أيضاً قول القاضين أنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين وبقاء الأثر بل وحصوله أيضاً ليس أمراً ضرورياً للمس ولا للنخس والحصر باعتبار الأغلب ، والاقتصار على عيسى عليه السلام وأمه إيذاناً باستجابة دعاء امرأة عمران على أتم وجه ليتوجه أرباب الحاج إلى الله تعالى بشراشرهم ، أو يقدر له ما يخصصه ، وعلى التقديرين يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من العموم فلا يلزم تفضيل عيسى عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى ، ويؤيده خروج المتكلم من عموم كلامه ، وقد قال به جمع ويشهد له ما روى الجلال في «البهجة السنية » عن عكرمة قال : لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم أشرقت الأرض نوراً فقال إبليس : لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا فقالت له جنوده : لو ذهبت إليه فجاءه فركضه جبريل عليه السلام فوقع بعدن ، وهذا أولى من إبقاء العام على عمومه ، والقول بأنه لا يبعد اختصاص عيسى وأمه بهذه الفضيلة دون الأنبياء عليهم السلام ولا يلزم منه تفضيله عليهم عليهم السلام إذ قد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل ، وعلى كلا الأمرين الفاضل والمفضول لا إشكال في الإخبار من تلك الحيثية ، نعم قد يشكل على ظاهرها أن إعاذة أم مريم كانت بعد الوضع فلا يصح حملها على الإعاذة من المسِّ الذي يكون حين الولادة ، وأجيب بأن المس ليس إلا بالانفصال وهو الوضع ومعه الإعاذة ، غايته أنه عبر عنه بالمضارع كما أشرنا إليه لقصد الاستمرار فليتأمل ، والعجب من بعض أهل السنة كيف يتبع المعتزلة في تأويل مثل هذه الأحاديث الصحيحة لمجرد الميل إلى ترهات الفلاسفة مع أن إبقاءها على ظاهرها مما لا يرنق لهم شرباً ولا يضيق عليهم سرباً ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيراً من ماضيه .
( هذا ومن باب الإشارة ) :{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَا أنثى } وهي نفس أيضاً إلا أنها أكمل منها في المرتبة ، والجنس يلد الجنس { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب ، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار { وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } وهي العابدة/ { وِإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } [ آل عمران : 36 ] وهو الشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت