روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ٱسۡتِكۡبَارٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَكۡرَ ٱلسَّيِّيِٕۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِينَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا} (43)

وقوله تعالى : { استكبارا في الأرض } بدل من { نُفُورًا } وقال أبو حيان : الظاهر أنه مفعول من أجله ، ونقل الأول عن الأخفش ، وقيل : هو حال أي مستكبرين { وَمَكْرَ } هو الخداع الذي يرومونه برسول الله صلى الله عليه وسلم والكيد له ، وقال قتادة هو الشرك وروي ذلك عن ابن جريرج ، وهو عطف على { واستكبروا استكبارا } وأصل التركيب وأن مكروا الشيء على أن { السيء } صفة لموصوف مقدر أي المكر المسيء ثم أقيم المصدر مقام أن والفعل وأضيف إلى ما كان صفة ، وجوز أن يكون عطفاً على { إِلاَّ نُفُورًا } وقرأ الأعمش . وحمزة { السيء } باسكان الهمزة في الوصل إجراء له مجرى الوقف أو لتو إلى الحركات وإجراء المنفصل مجرى المتصل ، وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن لما فيها من حذف الاعراب كما قال أبو جعفر .

وزعم محمد بن زيد أن الحذف لا يجوز في نثر ولا شعر لأن حركات الاعراب دخلت للفرق بين المعاني ، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش قرأ بها ، وقال : إنما كان يقف على هذه الكلمة فغلط من أدى عنه ، والدليل على هذا أنها تمام الكلام ولذا لم يقرأ في نظيرها كذلك مع أن الحركة فيه أثقل لأنها ضمة بين كسرتين ، والحق أنها ليست بلحن ، وقد أكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والوصل بنية الوقف ، وقال ابن القشيري : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرئ به فلا بد من جوازه ولا يجوز أن يقال لحن ، ولعمري أن الإسكان ههنا أحسن من الإسكان في { إلى بَارِئِكُمْ } كما في قراءة أبي عمرو ، وروي عن ابن كثير { وَمَكْرَ } بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة وهو مقلوب السيء المخفف من السيء كما قال الشاعر :

ولا يجزون من حسن بسيء *** ولا يجزون من غلظ بلين

وقرأ ابن مسعود { مَكْرًا سَيّئاً } عطف نكرة على نكرة { وَلاَ يَحِيقُ المكر } أي لا يحيط { السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } .

وقال الراغب : أي لا يصيب ولا ينزل ، وأياً ما كان فهو إنما ورد فيما يكره ، وزعم بعضهم أن أصل حلق حق فجيء بدل أحد المثلين بالألف نحو ذم وذام وزل وزال ، وهذا من ارسال المثل ومن أمثال العرب من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا ، وعن كعب أنه قال لابن عباس : قرأت في التوراة من حفر مغواة وقع فيها قال : أنا وجدت ذلك في كتاب الله تعالى فقرأ الآية ، وفي الخبر «لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله تعالى يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً فإن الله سبحانه يقول { إنما بغيكم على أنفسكم } [ يونس : 23 ] » وقد حاق مكر هؤلاء بهم يوم بدر .

والآية عامة على الصحيح والأمور بعواقبها والله تعالى يمهل ولا يهمل ووراء الدنيا الآخرة وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، وبالجملة من مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهرففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك ، أسأل الله تعالى بحرمة حبيبه الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يدفع ويرفع عنا مكر الماكرين وأن يعاملهم في الدارين بعدله إنه سبحانه القوى المتين . وقرئ { وَلاَ يَحِيقُ } بضم الياء { المكر } بالنصب على أن يحيق من أحاق المتعدى وفاعله ضمير راجع إليه تعالى و { يَحِيقُ المكر } مفعوله { فَهَلْ يَنظُرُونَ } أي ما ينتظرون ، وهو مجاز بجعل ما يستقبل بمنزلة ما ينتظر ويتوقع { إِلا سُنَّتُ الاولين } أي إلا سنة الله تعالى فيهم بتعذيب مكذبيهم .

{ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } بأن يضع سبحانه موضع العذاب { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً } بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم ، والفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب من مجيئه ، ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني ، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما ، والخطاب عام أو خاص به عليه الصلاة والسلام .