التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ٱسۡتِكۡبَارٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَكۡرَ ٱلسَّيِّيِٕۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِينَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا} (43)

{ وأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا 42 اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ ومَكْرَ السَّيِّئِ ولَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَولِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا 43 }[ 42 43 ] .

احتوت الآيات حكاية الأيمان المغلظة التي كان المشركون يحلفونها قبل البعثة النبوية بأنهم لو جاءهم نذير لاتبعوه ، ولكانوا به أهدى من الأمم الأخرى ، وما كان من أمرهم حينما جاءهم النذير وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث ازدادوا كفرا ونفورا . وذكرت أن سبب الموقف الناكث الذي وقفوه هو استكبارهم عن اتباع النذير الذي جاءهم ، ورغبة في معاكسته والكيد له ، ثم عقبت على ذلك منددة منذرة . فالمكر السيئ لن يضر غير أصحابه . وإن الناكثين الماكرين في موقفهم كأنما ينتظرون ويستعجلون سنة الله التي قد خلت في الأولين بإهلاك المكذبين لرسل الله الماكرين بهم مكر السوء ؛ وإن سنة الله لن تتبدل معهم ولن تتحول عنهم .

ولا يروي المفسرون رواية ما عن مناسبة نزول الآيتين . وهما معطوفتان على ما سبقهما . والمتبادر أن ضمير الغائب فيهما عائد إلى الكافرين والمشركين موضوع الكلام في الآيات السابقة ، بحيث يمكن القول : إن الآيتين غير منفصلتين عن السياق . وإنهما احتوتا تذكيرا بالأيمان التي كان هؤلاء يحلفونها ، وتنديدا بموقفهم الذي وقفوه حينما جاءهم النذير الذي كانوا يتمنون مجيئه .

تعليق على جملة

{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم }

وما بعدها في الآيتين [ 42 و 43 ] وما يتصل بذلك من صور وملابسات

والمتبادر أن جملة { إحدى الأمم } في الآية الأولى هم اليهود والنصارى على ما تلهمه آيات سورة الأنعام هذه { وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 155 أَن تَقُولُواْ {[1732]} إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ 156 أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وهُدًى ورَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ 157 }

ويفهم من الآية الأولى من آيتي فاطر اللتين نحن في صددهما أن العرب أو الفريق المستنير منهم كانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى من خلاف ونزاع وتشادّ وتكذيب بعض لبعض بل وقتال ، فيعجبون من ذلك ويقسمون بأنهم لو جاءهم نذير أو بعث فيهم نبي مثل ما جاء هؤلاء لاتبعوه واهتدوا بهداه وغدوا أهدى من أي منهما .

وفي القرآن آيات عديدة تحكي واقع خلاف الطوائف اليهودية والنصرانية وتشادّها وقتالها قبل البعثة الإسلامية وفي أثنائها . من ذلك آية سورة البقرة هذه { وقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 113 } وآية سورة البقرة هذه { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ ورَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ولَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ ومِنْهُم مَّن كَفَرَ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ ولَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ 253 } ومنها آية آل عمران هذه { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ومَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ومَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ 19 } ومنها آيات سورة المائدة هذه { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ ونَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ولاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ واصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ13{[1733]} ومِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوةَ والْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ 14 } .

وليس من ريب في أن العرب أو فريقا منهم من أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وفي ظرف بعثته كانوا يعرفون ما حكته الآيات عن حالة اليهود والنصارى . لأنهم كانوا على صلة وثيقة بهم من حيث كان منهم جماعات في مكة والمدينة . وكانوا يلتقون بكثير منهم أيضا في بلاد الشام والعراق ومصر واليمن التي كانوا يصلون إليها في رحلاتهم الصيفية والشتوية . وأن ذلك كان يثير في أنفسهم العجب . وهذا ما يفسره ما حكته آيات الأنعام التي أوردناها آنفا والتي تتضمن ما كان من اعتذارهم من أن الكتب السماوية المنزلة على طائفتين من قبلهم أي اليهود والنصارى كانت بلغة غير لغتهم ، فلم يتسن لهم دراستها . ومن أنهم لو أنزل عليهم كتاب بلغتهم لكانوا أهدى منهم . وما حكته آية فاطر التي نحن في صددها من حلفهم الأيمان المؤكدة بأنهم لو جاءهم نذير منهم ليكونن أهدى منهم بأسلوب فيه معنى التعجب والانتقاد .

وواضح أن هذا يدل على أن فريقا من مستكبري العرب قد وصلوا إلى طور شعروا فيه بأن ما عليه العرب من عقائد وتقاليد دينية باطل وضلال فأنفوا منها ونزّهوا أنفسهم عنها ، وأنفوا من النصرانية واليهودية لما كان عليه أهلهما من نزاع وخلاف وتهاتر وقتال وشيع وأحزاب ، فأدّاهم ذلك إلى ما حكته الآيات عنهم .

وهناك روايات عديدة تذكر أسماء عدد غير يسير من هؤلاء المستنيرين وأنفتهم من عقائد وتقاليد قومهم وانصرافهم عنها ، وتنصُّر بعضهم وتهوُّد بعضهم ، وأنفة بعضهم عن التهود والتنصر أيضا ، وبحثهم عن ملة إبراهيم الحنيفية التوحيدية الخالصة وادعاء بعضهم أنهم عليها{[1734]} . كما أن هناك روايات تفيد أن اليهود كانوا يذكرون للعرب أن نبيا سيبعث وكتابا عربيا سينزل وأنهم سيكونون حزبه{[1735]} ، مما انطوى على ذلك قرينة قوية في آية سورة البقرة هذه { ولَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ 89 } وهذه { ولَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ ورَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ 101 }{[1736]} بل ومما انطوى على ذلك قرينة قوية في آية سورة الأعراف هذه { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 157 } التي يمكن أن تلهم أن اليهود والنصارى معا في الحجاز ومكة كانوا يتحدثون عن نبي عربي أمّيّ يبعث ، ويذكرون صفاته التي يجدونها في التوراة والإنجيل ، فكان العرب أو الفريق المستنير منهم ينتظرون تحقق ذلك ويقسمون بأنهم سيكونون حينئذ أهدى به من النصارى واليهود .

والآيات التي تذكر إيمان من آمن من اليهود والنصارى وفرحهم بما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وشهادتهم بأنه منزل بالحق من الله تعالى وكونهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، والتي أوردناها في سياق تفسير آية سورة الأعراف المذكورة آنفا مما يدعم ذلك .

وبذلك كله استحكمت حجة آيات سورتي فاطر والأنعام الدامغة القوية على كفار العرب وبخاصة الفريق المستنير الذي كان يقود حركة الصدّ والمناوأة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته لأن ما كانوا ينتظرونه ويتمنونه قد تحقق ، وحقّ عليهم التنديد القوي الذي احتوته ؛ لأنهم نكثوا أيمانهم وخالفوا أقوالهم ووقفوا مواقف الظلم والبغي .

سبب وقوف زعماء قريش موقف المعاداة والتكذيب ،

مع أنهم كانوا يتمنون بعثة نبي منهم بكتاب بلغتهم

والآية الثانية من آيتي سورة فاطر التي نحن في صددها تتضمن السبب الذي حدا إلى نكث من نكث أيمانه من هذا الفريق ، حينما تحقق ما انتظروا وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب عربي مبين ، وهو الاستكبار عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم المبعوث فيهم الذي أداهم إلى الوقوف منه موقف التصامم والمناوأة والكيد والبغي والمكر السيئ . والمتبادر أنهم من طبقة الزعماء والأغنياء ، وفي ذلك الظرف قلّ أن ينبه نابه من غير هذه الطبقة ، فأنفوا أن يتبعوا النبي الذي لم يكن من طبقتهم . ولعل منهم من حسد النبي صلى الله عليه وسلم لاختصاصه دونهم بالرسالة ، فأعمى الهوى بصيرته ، وكان مثله كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، على ما جاء في آية سورة الأعراف [ 175 ] التي روى المفسرون في سياقها اسمين من أسماء نابهي العرب الذين كبر عليهم اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم من دونهم ، وهما أمية بن الصلت وأبو عامر الراهب على ما شرحناه في سياق الآية المذكورة . وفي آيات سورة ص هذه { وانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ 6 مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ 7 أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ 8 } . وفي سورة الزخرف آية من هذا الباب فيها صراحة أكثر بالنسبة للموضوع وهي هذه { وقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ 31 } أي أنهم استغربوا واستكبروا أن يكون النبي الذي ينزل عليه القرآن محمدا صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن معدودا من طبقة الزعماء ، وقالوا كان ينبغي أن ينزل القرآن على عظيم من عظام مكة أو الطائف .

ولقد كان بنو أمية أكثر بروزا من بني هاشم في مكة ، وكانت لهم قيادة الحرب فحسبوا حساب استعلاء بني هاشم عليهم إذا نجحت دعوة النبي الهاشمي فحفزهم ذلك إلى مناوأته . ولقد أثر عن عمرو بن هشام المخزومي الذي يكنى في الإسلام بأبي جهل أن مثل هذا الحساب هو الذي جعله يقف موقف العداء والمناوأة الشديد الذي وقفه{[1737]} .

فكل هذا يفسر ما كثرت حكايته في القرآن من مواقف العناد والجدل والمكابرة والتأليب والتكذيب والتحدي والأذى والتهم الباطلة التي وقفها الزعماء والنبهاء الذين لم يكونوا أو لم يكن أكثرهم أغبياء وضعفاء الإدراك على ما تلهمه نصوص القرآن{[1738]} ، وما كثرت حكايته كذلك من الحملات الشديدة التي نزلت فيهم مما لا تكاد تخلو منه سورة مكية ، ومما مرّ منه أمثلة كثيرة في السور السابقة ، وأوردنا منه كثيرا من سور أخرى في سياق تفسير هذه السور ، فنكتفي بذلك دون إيراد نصوص أخرى لأن الأمثلة مبثوثة في مختلف السور القرآنية وبنوع خاص في المكية منها .

وفي القرآن إلى هذا آيات تذكر ما كان من أثر تأليب الزعماء للسواد الأعظم ضد النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته حتى جعلوهم ينقبضون عنه مما كان من أسباب حكاية تلك المواقف والحملات . ومن ذلك آيات سورة سبأ هذه { وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ ولَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ولَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ 31 قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ 32 وقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ ونَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 33 } وآيات سورة الأحزاب هذه { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وأَطَعْنَا الرَّسُولَا 66 وقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا 67 } .

ولقد كانت هذه المواقف الاستكبارية الناكثة الماكرة المؤذية المعجّزة المتحدية المكابرة مما يحزّ في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ويثير فيه الألم والحسرات ، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الآيات التي تضمنت تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه والتهوين عليه مما مرّ منه أمثلة كثيرة في هذه السورة وما قبلها .

تعليق على ما حكاه القرآن من استعجال المشركين العذاب الموعود

وممّا تلهمه الآية الثانية التي نحن في صددها أي الآية [ 43 ] من سورة فاطر أن المشركين كانوا يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال العذاب وتعجيله عليهم بأسلوب المستهتر الساخر . فأكدت الآية لهم عدم تبدل سنة الله التي خلت في من قبلهم توكيد يتضمن الإنذار . والآيتان التاليتان تتضمنان تدعيما لهذا التوكيد مما ينطوي فيه صحة الاستلهام . واستعجال الكفار العذاب الموعود بالأسلوب الساخر الجاحد قد حكي عنهم في آيات كثيرة منها آيات الأنبياء هذه { وإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وهُم بِذِكْرِ الرحمان هُمْ كَافِرُونَ 36 خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ 37 ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 38 } ومنها آية سورة الحج هذه { ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ولَن يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ وإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ 47 } ومنها آيات سورة العنكبوت هذه { ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ولَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ ولَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وهُمْ لَا يَشْعُرُونَ 53 يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ 54 يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ويَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 55 } .

تلقين الآيات المستمر ضد المتكبرين عن الحق الماكرين بدعاته

هذا ، ومع خصوصية الموقف وزمنه فإن ما في الآيات من تنديد بالذين يستكبرون على ما يعلمون أنه الحق ويكابرون فيه ويصدون عنه وينكثون بعهدهم في صدده بباعث الحسد والكبر وقصد المكر والكيد يمكن أن يكون تلقينا مستمر المدى ضد هذه الأخلاق وضد المتصفين بها كما هو المتبادر .


[1732]:لئلا تقولوا.
[1733]:هذه الآية في حق اليهود كما تدل عليه الآية التي قبلها.
[1734]:انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 396 ـ 434.
[1735]:المصدر السابق نفسه.
[1736]:انظر تفسير الآيتين أيضا في الطبري وابن كثير ورشيد رضا وغيرهم حيث روى المفسرون في سياقهما روايات تطابق ما ذكرناه.
[1737]:روى ابن كثير في سياق تفسير الآيات [33 ـ 36] من سورة الأنعام أن أبا جهل قال: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا. وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك هذا. والله لا نؤمن به ولا نصدقه".
[1738]:اقرأ الباب الثالث في حياة العرب العقلية في كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 237 ـ 316.