اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱسۡتِكۡبَارٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَكۡرَ ٱلسَّيِّيِٕۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِينَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا} (43)

قوله : { اسْتِكْباراً } يجوز أن يكون مفعولاً له أي لأجل الاستكبار{[45556]} وأن يكون بدلاً من{[45557]} «نُفُوراً » وأن يكون حالاً أي كونهم مستكبرين{[45558]} قاله الأخفش .

قوله : «ومكر السيّء » فيه وجهان :

أظهرهما : أنه عطف على «استكباراً »

والثاني : أنه عطف على «نُفُوراً »{[45559]} وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته{[45560]} في الأصل إذ الأصل والمَكْر والسيِّئ{[45561]} وقرأ العامَّةُ بخفض همزة «السيّئ » وحمزة والأعمش بسكونها وصلاً{[45562]} وقد تجرأت النحاة وغيرهم على هذه القراءة ونسبوها لِلِّحْنِ ونزهوا الأعمش من{[45563]} أن يكون قرأ بها . قالوا : وإنما وقف{[45564]} مسكناً فظُنَّ أنه واصل فغلط عليه{[45565]} . وقد احتج لها قومٌ بأنه إجراء الوصل مُجْرى الوقف أو أجري المنفصل مُجْرى المتصل وحسَّنه كون الكسرة على حرف ثقيل بعد ياء مشددة مكسورة{[45566]} وقد تقدَّمَ أَنَّ أبا عمرو يقرأ : «إلى بارئْكُمْ » «عند بارِئْكُمْ »{[45567]} بسكون الهمزة . فهذا أولى لزيادة الثقل هنا . وقد تقدم هُنا ( كَ ){[45568]} أمثلة وشواهد ، وروي عن ابن كثير «ومَكْرَ السّأي » بهمزة ساكنة بعد السين ثم ياء مكسورة{[45569]} ( و ){[45570]} خرجت على أنها مقلوبة من السَّيْء ، والسَّيْءُ مخفف ( من السيّء ){[45571]} كالمَيْتِ من الميِّت قال الحَمَاسِيُّ :

4166- وَلاَ يَجْزُونَ من حَسَنٍ بسَيْءٍ . . . ولا يَجْزُونَ مِنْ غِلَظٍ بِلِينِ{[45572]}

وقد كثر في قراءته القلب نحو ضِيَاءٍ ، وتَأيَسُوا ولا يَأيَسُ{[45573]} ، كما تقدم تحقيقه وقرأ عبد الله : «وَمَكْراً سَيِّئاً » بالتنكير وهو موافق لما قبله{[45574]} وقرئ : ولا يُحِيقُ بضم الياء المَكْرَ السَّيِّئَ بالنصب{[45575]} على أن الفاعل ضمير الله تعالى ؛ أي لا يُحِيطُ اللَّهُ الْمَكْرَ السَّيِّئَ إلاَّ بأهله .

فصل

المراد بالمكر السيّء أي القبيح أضيف المكر إلى صفته قال الكلبي : هو إجتماعهم على الشرك{[45576]} وقيل النبي - صلى الله عليه وسلم{[45577]} - وقال ابن الخطيب : هذا من إضافة الجنس إلى نوعه{[45578]} كما يقال : عِلْمُ الفِقْهِ وحِرْفَةُ الحِدَادَةِ ومعناه : ومكروا مكراً سيئاً ثم عُرِّف لظهور مكرهم ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيّئ لكون السر فيه أبين الأمور . ويحتمل أن يقال : بأن المكر استعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى : { والذين يَمْكُرُونَ السيئات }{[45579]} [ فاطر : 10 ] أي يعملون السيئات .

قوله : «ولا يحيق المكر السيّئ » أي لا يحل ولا يحيط{[45580]} ، وقوله : «يَحِيقُ » ينبئ عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق .

فإن قيل : كثيراً ما نرى الماكر يمكُر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك .

فالجواب من جوه :

أحدهما : أن يكون المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوا يوم بدر وغيره .

وثانيها : أن نقول : المكرُ عام وهو الأصح ، فإن النبي - عليه ( الصلاة{[45581]} و ) السلام - نهى عن المكر وأخبر بقوله : «لا تَمْكُرُوا وَلاَ تُعِينُوا مَاكِراً فَإنَّ اللَّهِ يَقُولُ : وَلاَ يَحيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأهْلِهِ »{[45582]} وعلى هذا ( فذلك ){[45583]} الرجل الماكر يكون أهلاً فلا يرد نقضاً .

وثالثها : أن الأعمال بعواقبها ومن مكر غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقَة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ } يعني إن كان لمكرهم في الحال رواجٌ فالعاقبة للتقوى والأمور بخَوَاتِيمها .

قوله : { سُنَّةَ آلأَوَّلِين } مصدر مضاف لمفعوله و «وسُنَّةَ اللَّهِ » مصدر مضاف لفاعله لأنه سنَّها بهم فصحت إضافتها إلى الفاعل والمفعول . وهذا جواب ( عن ){[45584]} سؤال وهو أن الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله في الأولين والجواب عن هذا السؤال من وجهين :

أحدهما : أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجهٍ دون وجه فيقال فيما إذا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً : عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ عمرو وكيف ضرب مع ما له من الْقَوم{[45585]} والقُوة ؟ وعجبتُ من ضَرْب عمرو وكيف ضرب مع ماله من العلم والحلم{[45586]} ؟ فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها ( سنة ){[45587]} سنت بهم وإضافتها إلى{[45588]} نفسه بعدها بقوله : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله } لأنها سنة من الله ، فعلى هذا نقول : أضافها في الأول إليهم حيث قال : سنة الأولين ، لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيتهما فإذا قال : سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها{[45589]} إلى الله لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظيماً وتبين أنها أمر واقعٌ ليس لها من دافع .

وثانيهما : أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال : أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنةٍ لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقِّها .

فإن قيل : ما الحكمة في تكرار التبديل والتحويل ؟

فالجواب : أن المراد بقوله : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } حصول العلم بأن العذاب لا يبدل بغيره وبقوله : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً } حصول العلم بأن العذاب مع أنه لا يتبدل بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المُسِيءِ .

فصل

المعنى فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مَضَى{[45590]} من الكفار والمخاطب بقوله : { فَلَن تَجِد } عام كأنه قال : لن تجد أيها السامع وقيل : الخطاب مع محمد - عليه ( الصلاة{[45591]} و ) السلام- .


[45556]:قاله الفراء في المعاني 2/371 ومكي في المشكل 2/218 والزجاج في معانيه 4/374 ، والنحاس في الإعراب 4/377 ، وابن الأنباري في البيان 2/289 ، والزمخشري في الكشاف 3/312 والسمين في الدر 4/489 وأبو حيان في البحر 7/319 وأبو البقاء في التبيان 1077 .
[45557]:ذكرهما الزمخشري والنحاس وأبو حيان والسمين في المراجع السابقة .
[45558]:ذكرهما الزمخشري والنحاس وأبو حيان والسمين في المراجع السابقة .
[45559]:نقله الزمخشري والنحاس وأبو حيان وأبو البقاء المراجع السابقة .
[45560]:مشكل إعراب القرآن 2/218 والبحر 7/319 .
[45561]:فهم يرون أن الموصوف والصفة شيء واحد لأنهما لعين واحدة فإذا قلت: ((جاءني زيد العاقل))، ((فالعاقل)) هو ((زيد)) وزيد هو العاقل فلما كانا كذلك لم يجز إضافة أحدهما إلى الآخر وإذا ورد ما يوهم ذلك أول على أنه صفة لموصوف محذوف مثل الآية هنا. بتصرف من المفصل وشارحه ابن يعيش 3/10 .
[45562]:من القراءة المتواترة وقد نسبها ابن مجاهد في السبعة 535 إلى حمزة وحده بينما في الإتحاف ذكر الأعمش وحمزة والأعمش موافقا لحمزة. الإتحاف 362 . وانظر معاني الفراء 2/371 قال: ((وقد جزمها الأعمش وحمزة لكثرة الحركات كما قال: ((لا يحزنهم الفزع الأكبر)) وكما قال الشاعر: إذا اعوججن قلت صاحب قوم يريد صاحب قوم فجزم الباء لكثرة الحركات)). المعاني 2/371. وانظر: الكشاف 3/312 فكثرة الحركات هي التي دعت إلى تلك القراءة .
[45563]:في ((ب)) عن .
[45564]:في ((ب)) وقعت تحريف .
[45565]:من هؤلاء الذين أدانوا تلك القراءة من النحاة المفسرين أبو إسحاق الزجاج فقد قال في معاني القرآن وإعرابه: 4/275 : ((وهذا عند النحويين الحذاق لحن ولا يجوز وإنما يجوز مثله في الشعر في الاضطرار قال الشاعر: إذا اعوججن قلت صاحب قوم.... وأصل: يا صاحب قوم. ولكنه حذف مضطرا)).
[45566]:قال بهذا المعنى ابن خالويه في الحجة 197 والزمخشري في الكشاف 3/312 والبناء في الإتحاف 362 وباللفظ السمين في الدر 4/489 .
[45567]:الآية 54 من البقرة وانظر المراجع السابقة واللباب 1/117 ب.
[45568]:سقط من ((ب)) .
[45569]:ذكرها ابن خالويه في المختصر 124 وأبو حيان في البحر 7/320 .
[45570]:سقط من ((ب)) .
[45571]:سقط من ((ب)) .
[45572]:من الوافر وهو لأبي الغول الطهوري ويروى (بسوءي) كما يروى: (بسَوء) وشاهده (بسيىء) على أنها مخفف سَيِّيء وانظر: شرح المفصل لابن يعيش 5/55 و 6/102 والبحر 7/320 والدر 4/490 وأمالي القالي 1/260 والخزانة 6/434 و 8/314 .
[45573]:يشير إلى كلمة الضياء واليأس التي وردت في قوله تعالى {هو الذي جعل الشمس ضياء} الآية (5) من يونس {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء} 148 الأنبياء و {من إله غير الله يأتيكم بضياء} 171 القصص .
[45574]:ذكره القرطبي 14/359 وأبو حيان في البحر 7/320 والكشاف 3/312 وابن جني في المحتسب 2/202 والفراء 2/371 .
[45575]:ولم يعزها أبو حيان في بحره 7/320 وانظر الدر المصون 4/490 .
[45576]:وقد ذكره الطبري عن قتادة. وانظر: زاد المسير 6/498 .
[45577]:المرجع السابق .
[45578]:المرجع السابق .
[45579]:قاله الرازي في تفسيره 26/34 .
[45580]:في ((ب)) معنى. وانظر: معاني الزجاج 4/275 والمجاز لأبي عبيدة 2/156 .
[45581]:زيادة من ((ب)) .
[45582]:ذكره القرطبي 14/360 عن الزهري والرازي 26/34 .
[45583]:سقط من ((ب)) .
[45584]:كذلك .
[45585]:في ((ب)) العزم وهو موافق للرازي .
[45586]:في ((ب)) الحكم .
[45587]:سقط من ((ب)) .
[45588]:وانظر في هذا كله الرازي 26/34 و 35 .
[45589]:في ((ب)) إضافتها .
[45590]:بمن مضى كذا هنا هو الأصح في ((أ)) . وفي ((ب)) عن معنى تحريف .
[45591]:زيادة من ((ب)) وانظر هذا كله في الرازي 26/35 و 36 .