روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (165)

{ رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } نصب على المدح ، أو بإضمار أرسلنا أو على الحال من { رُسُلاً } [ النساء : 164 ] الذي قبله ، أو ضميره وهي حال موطئة ، والمقصود وصفها . وضعف هذا بأنه حينئذ لا وجه للفصل بين الحال وذيها ، وجوز أن يكون نصباً على البدلية من { رُسُلاً } الأول ، وضعف بأن اتحاد البدل والمبدل منه لفظاً بعيد ، وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أي مبشرين من آمن وأطاع بالجنة والثواب ومنذرين من كفر وعصى بالنار والعقاب .

{ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ } أي معذرة يعتذرون بها قائلين { لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } [ طه : 134 ] فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن إدراك جزئيات المصالح ، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها . فالآية ظاهرة في أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل ؛ وأن العقل لا يغني عن ذلك ، وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعتري الإنسان من دون اختيار ، فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على الله حجة ، وسيأتي ردّ ذلك إن شاء الله تعالى مع تحقيق هذا المبحث . وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجة مجاز بتنزيل المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها ، فلا يبطل قول أهل السنة أنه لا اعتراض لأحد على الله تعالى في فعل من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ما شاء ، واللام متعلقة بأرسلنا المقدر ، أو بمبشرين ومنذرين على التنازع ، وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه ، و { حُجَّةٌ } اسم كان وخبرها { لِلنَّاسِ } و { عَلَى الله } حال من { حُجَّةٌ } ويجوز أن يكون الخبر { عَلَى الله } و { لِلنَّاسِ } حال ، ولا يجوز أن يتعلق على بحجة لأنها مصدر ومعموله لا يتقدم عليه ، ومن جوزه في الظرف جوزه هنا .

وقوله تعالى : { بَعْدَ الرسل } أي بعد إرسالهم وتبليغ الشريعة على ألسنتهم ظرف لحجة ، وجوز أن يكون صفة لها لأن ظرف الزمان يوصف به المصادر كما يخبر به عنها { وَكَانَ الله عَزِيزاً } لا يغالب في أمر يريده . { حَكِيماً } في جميع أفعاله ، ومن قضية ذلك الامتناع عن إجابة مسألة المتعنتين ، وقطع الحجة بإرسال الرسل وتنوع الوحي إليهم والإعجاز ، وقيل : عزيزاً في عقاب الكفار حكيماً في الإعذار بعد تقدم الإنذار كأنه بعد أن سألوا إنزال كتاب الله تعالى .

( هذا ومن باب الإشارة ) :على قول : { رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ } بتجليات اللطف { وَمُنذِرِينَ } بتجليات القهر { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } أي لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعد ما محى ذلك بأمداد الرسل { وَكَانَ الله عَزِيزاً } فيمحو صفاتهم ويفني ذواتهم { حَكِيماً } [ النساء : 165 ] فيفيض عليهم من صفاته ويبقيهم في ذاته حسبما تقتضيه الحكمة