روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (92)

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } شروع في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين والمنافقين ، وقيل : لما رغب سبحانه في قتال الكفار ذكر إثره ما يتعلق بالمحاربة في الجملة أي ما صح له وليس من شأنه { أَن يَقْتُلَ } بغير حق { مُؤْمِناً } فإن الإيمان زاجر عن ذلك { إِلاَّ خَطَئاً } فإنه مما لا يكاد يحترز عنه بالكلية وقلما يخلو المقاتل عنه ، وانتصابه إما على أنه حال أي ما كان له أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ ، أو على أنه مفعول له أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ ، أو على أنه صفة للمصدر أي إلا قتلا خطأ فالاستثناء في جميع ذلك مفرغ وهو استثناء متصل على ما يفهمه كلام بعض المحققين ، ولا يلزم جواز القتل خطأ شرعاً حيث كان المعنى أن من شأن المؤمن أن لا يقتل إلا خطأ . وقال بعضهم : الاستثناء في الآية منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر ، وقيل : إلا بمعنى ولا ، والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأ ، وقيل : الاستثناء من مؤمن أي إلا خاطئاً ، والمختار مع الفصل الكثير في مثل ذلك النصب ، والخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل أو الشخص ، أو لا يقصد به زهوق الروح غالباً ، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه ، وقرىء خطاء بالمد وخطا بوزن عمى بتخفيف الهمزة ، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان أخا أبي جهل والحرث بن هشام لأمهما أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان أحب ولد أمه إليها فشق ذلك عليها فحلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه ، فأقبل أبو جهل والحرث حتى قدما المدينة فأخبرا عياشاً بما لقيت أمه ، وسألاه أن يرجع معهما فتنظر إليه ولا يمنعاه أن يرجع وأعطياه موثقاً أن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمداً إليه فشداه وثاقاً وجلداه نحواً من مائة جلدة ، وأعانهما على ذلك رجل من بني كنانة فحلف عياش ليقتلن الكناني إن قدر عليه فقدما به مكة فلم يزل محبوساً حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فخرج عياش فلقي الكناني وقد أسلم ، وعياش لا يعلم بإسلامه فضربه حتى قتله فأخبر بعد بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فنزلت ، وروي مثل ذلك عن مجاهد وعكرمة .

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد

" أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلاً من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله فبدر فضربه ، ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئاً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا شققت عن قلبه وقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه ؟ا فقال : كيف بي يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : فكيف بلا إلا إلا الله ؟ا وتكرر ذلك قال أبو الدرداء فتمنيت أن ذلك اليوم مبتدأ إسلامي ثم نزل القرآن "

{ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي فعليه ( أي فواجبة ) تحرير رقبة والتحرير الإعتاق ؛ وأصل معناه جعله حراً أي كريماً لأنه يقال لكل مكرم حر ، ومنه حر الوجه للخد وأحرار الطير ، وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضاً ، والمراد بالرقبة النسمة تعبيراً عن الكل بالجزء ، قال الراغب : إنها في المتعارف للمماليك كما يعبر بالرأس والظهر عن المركوب ، فيقال : فلان يربط كذا رأساً وكذا ظهراً { مُؤْمِنَةٍ } محكوم بإيمانها وإن كانت صغيرة ، وإلى ذلك ذهب عطاء ، وعن ابن عباس والشعبي وإبراهيم والحسن لا يجزىء في كفارة القتل الطفل ولا الكافر ، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال في حرف أبي : ( فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزىء فيها صبي ) ، وفي الآية رد على من زعم جواز عتق كتابي صغير أو مجوسي كبير أو صغير ، واستدل بها على عدم إجزاء نصف رقبة ونصف أخرى { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } أي مؤداة إلى ورثة القتيل يقتسمونها بينهم على حسب الميراث ، فقد أخرج أصحاب «السنن الأربعة » عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال : كتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها ، ويقضي منها الدين وتنفذ الوصية ولا فرق بينها وبين سائر التركة ، وعن شريك لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية . وعن ربيعة الغرة لأم الجنين وحدها ؛ وذلك خلاف قول الجماعة ، وتجب الرقبة في مال القاتل ، والدية تتحملها عنه العاقلة ، فإن لم تكن فهي في بيت المال ، فإن لم يكن ففي ماله .

{ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } أي يتصدق أهله عليه ، وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه ، وقد أخرج الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كل معروف صدقة " وهو متعلق بعليه قبل ، أو بمسلمة أي فعليه الدية أو يسلمها في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بها فحينئذ تسقط ولا يلزم تسليمها ، وليس فيه كما قيل دلالة على سقوط التحرير حتى يلزم تقدير عليه آخر قبل قوله : { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ } فالمنسبك في محل نصب على الاستثناء ، وقال الزمخشري : إن المنسبك في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف ، وتعقبه أبو حيان بأن كلا التخريجين خطأ لأن { ان } والفعل لا يجوز وقوعهما حالاً ، ولا منصوباً على الظرفية كما نص عليه النحاة وذكر أن بعضهم استشهد على وقوع { ان } وصلتها موقع ظرف الزمان بقوله :

فقلت لها لا تنكحيه فإنه *** لأول سهم ( أن ) يلاقي مجمعا

أي لأول سهم زمان ملاقاته ، وابن مالك كما قال السفاقسي يقدر في الآية والبيت حرف الجر أي بأن يصدقوا وبأن يلاقي ، وقرأ أبي إلا أن يتصدقوا .

{ فَإن كَانَ } أي المقتول خطأ { مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ } أي كفار يناصبونكم الحرب { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أتاهم بعد ( أن أسلم ) لمهم ، أو بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم ، والآية نزلت كما قال ابن جبير في مرداس بن عمرو لما قتله خطأ أسامة بن زيد { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } أي فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ وراثة بينه وبين أهله { وَإِن كَانَ } أي المقتول المؤمن ما روي عن جابر بن زيد { مِن قَوْمٍ } كفار { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق } أي عهد مؤقت أو مؤبد { فِدْيَةٌ } أي فعلى قاتله دية { مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } من أهل الإسلام إن وجدوا ، ولا تدفع إلى ذوي قرابته من الكفار وإن كانوا معاهدين إذ لا يرث الكافر المسلم ، ولعل تقديم هذا الحكم كما قيل مع تأخير نظيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشياً عن توهم نقض الميثاق { وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } كما هو حكم سائر المسلمين ، ولعل إفراده بالذكر ما قيل أيضاً مع اندراجه في حكم ما سبق في قوله سبحانه : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً } الخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه بين المحاربين . وقيل : المراد بالمقتول هنا أحد أولئك القوم المعاهدين فيلزم قاتله تحرير الرقبة ، وأداء الدية إلى أهله المشركين للعهد الذي بيننا وبينهم ، وروي ذلك عن ابن عباس والشعبي وأبي مالك ، واستدل بها على أن دية المسلم والذمي سواء لأنه تعالى ذكر في كل الكفارة والدية فيجب أن تكون ديتهما سواءاً كما أن الكفارة عنهما سواء . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال : بلغنا أن دية المعاهد كانت كدية المسلم ثم نقصت بعد في آخر الزمان فجعلت مثل نصف دية المسلم ؛ وأخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن دية أهل الكتاب كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم النصف من دية المسلمين وبذلك أخذ مالك .

وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشرها ، وزعم بعضهم وجوب الدية أيضاً فيما إذا كان المقتول من قوم عدو لنا وهو مؤمن لعموم الآية الأولى ، وأن السكوت عن الدية في آيته لا ينفيها ، وإنما سكت عنها لأنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله لأنهم كفار بل تكون لبيت المال ، فأراد أن يبين بالسكوت أن أهله لا يستحقون شيئاً ، وقال آخرون إن الدية تجب في المؤمن إذا كان من قوم معاهدين ، وتدفع إلى أهله الكفار وهم أحق بديته لعهدهم ، ولعل هؤلاء لا يعدون ذلك إرثاً إذ لا يرث الكافر ولو معاهداً المسلم كما برهن عليه .

{ الهدى فَمَن لَّمْ يَجِدْ } رقبة يحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن { فَصِيَامُ } أي فعليه صيام { شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } قال مجاهد : لا يفطر فيهما ولا يقطع صيامهما ، فإن فعل من غير مرض ولا عذر استقبل صيامهما جميعاً ، فإن عرض له مرض أو عذر صام ما بقي منهما ، فإن مات ولم يصم أطعم عنه ستين مسكيناً لكل مسكين مدّ ، رواه ابن أبي حاتم . وأخرج عنه أيضاً أنه قال : فمن لم يجد دية أو عتاقة فعليه الصوم ، وبه أخذ من قال : إن الصوم لفاقد الدية والرقبة يجزيه عنهما ، والاقتصار على تقدير الرقبة مفعولاً هو المروي عن الجمهور وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنه قال : الصيام لمن لم يجد رقبة ، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء ، ثم قال وهو الصواب لأن الدية في الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل ، فلا يجزىء صوم صائم عما لزم غيره في ماله ، واستدل بالآية من قال : إنه لا إطعام في هذه الكفارة ، ومن قال : ينتقل إليه عند العجز عن الصوم قاسه على الظهار وهو أحد قولين للشافعي رحمه الله تعالى ، وبذكر الكفارة في الخطأ دون العمد ، من قال : أن لا كفارة في العمد ، والشافعي يقول : هو أولى بها من الخطأ { تَوْبَةً } نصب على أنه مفعول له أي شرع لكم ذلك توبة أي قبولاً لها من تاب الله تعالى عليه إذا قبل توبته ، وفيه إشارة إلى التقصير بترك الاحتياط . وقيل : التوبة هنا بمعنى التخفيف أي شرع لكم هذا تخفيفاً عليكم ، وقيل : إنه منصوب على الحالية من الضمير المجرور في عليه بحذف المضاف أي فعليه صيام شهرين حال كونه ذا توبة ، وقيل : على المصدرية أي تاب عليكم توبة ، وقوله سبحانه : { مِنَ الله } متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة أي توبة كائنة من الله تعالى . { وَكَانَ الله عَلِيماً } بجميع الأشياء التي من جملتها حال هذا القاتل { حَكِيماً } في كل ما شرع وقضى من الأحكام التي من جملتها ما شرع وقضى في شأنه .

( ومن باب الإشارة ) : في بعض ما تقدم من الآيات : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } أي وما ينبغي لمؤمن الروح { أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً } وهو مؤمن القلب { إِلا } أن يكون قتلاً { خطأ } ، وذلك إنما يكون إذا خلصت الروح من حجب الصفات البشرية فإذا أرادت أن تتوجه إلى النفس أنوارها لتميتها وقع تجليها على القلب فخر صعقاً من ذلك التجلي ودك جبل النفس دكاً فكان قتله خطأ لأنه لم يكن مقصوداً { خَطَئاً وَمَن قَتَلَ } قلباً { مُؤْمِناً } خطأ { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } وهي رقبة السر الروحاني وتحريرها إخراجها عن رق المخلوقات { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } تسلمها العاقلة وهي الألطاف الإلهية إلى القوى الروحانية فيكون لكل منهما من حظ الأخلاق الربانية { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } وذلك وقت غنائهم بالفناء بالله تعالى { فَإن كَانَ } المقتول بالتجلي { مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ } بأن كان من قوى النفس الأمارة { وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } وهي رقبة القلب فيطلقه من وثاق رق حب الدنيا والميل إليها ، ولا دية في هذه الصورة لأهل القتيل { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ } بأن كان من قوى النفس القابلة للأحكام الشرعية ظاهراً والمهادنة للقلب { فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ } واجبة على عاقلة الرحمة { إلى أَهْلِهِ } أي أهل تلك النفس من الصفات الأخر { وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } وهي رقبة الروح وتحريرها إفناؤها وإطلاقها عن سائر القيود { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } رقبة كذلك بأن كانت روحه محررة قبل

{ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } [ النساء : 92 ] أي فعليه الإمساك عن العاديات وترك المألوفات ستين يوماً ، وهي مقدار مدة الميقات الموسوي ونصفها رجاء أن يحصل له البقاء بعد الفناء