المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (92)

قال جمهور المفسرين : معنى هذه الآية : وما كان في إذن الله وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمناً بوجه ، ثم استثنى منقطعاً ليس من الأول ، وهو الذي تكون فيه إلا بمعنى لكن ، والتقدير لكن الخطأ قد يقع .

وهذا كقول الشاعر [ الهذلي ] : [ البسيط ]

أَمْسى سَقَامُ خَلاءً لاَ أَنيسَ بِهِ *** إلاّ السِّباعُ وإلاَّ الرّيحُ بِالغُرَفِ{[4188]}

قال القاضي أبو محمد : سقام اسم واد ، والغرف شجر يدبغ بلحائه ، وكما قال جرير : [ الطويل ]

مِنَ البِيضِ لَمْ تَطُغَنْ بَعيداً وَلَمْ تَطَأْ . . . على الأرْضِ إلاّ ريطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ{[4189]}

وفي هذا الشاهد نظر ، ويتجه في معنى الآية وجه آخر ، وهو أن تقدر { كان } بمعنى استقر ووجد ، كأنه قال ، وما وجد ولا تقرر ولا ساغ { لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً } ، إذ هو مغلوب فيه أحياناً ، فيجيء يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسياً ، إعظاماً العمد وبشاعة شأنه ، كما تقول : ما كان لك مقصوراً غير مهموز{[4190]} ، وقرأ الحسن والأعمش مهموزاً ممدوداً{[4191]} ، وقال مجاهد وعكرمة والسدي وغيرهم نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي حين قتل الحارث بن يزيد بن نبيشة{[4192]} ، وذلك أنه كان يعذبه بمكة ، ثم أسلم الحارث وجاء مهاجراً فلقيه عياش بالحرة ، فظنه على كفره فقتله ، ثم جاء فأخبر النبي عليه السلام فشق ذلك عليه ونزلت الآية ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قم فحرر »{[4193]} .

وقال أبو زيد : نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان يرعى غنماً وهو يتشهد فقتله وساق غنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت الآية{[4194]} .

وقيل : نزلت في أبي حذيفة اليمان حين قتل خطأ يوم أحد ، وقيل غير هذا ، والله أعلم وقوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً } الآية ، بيّن الله تعالى في هذه الآية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ ، وحقيقة الخطأ أن لا يقصده بالقتل ، ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى ، يربطها عدم القصد ، قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم : «الرقبة المؤمنة » هي الكبيرة التي قد صلت وعقلت الإيمان ، ولا يجزىء في ذلك الصغير ، وقال عطاء بن أبي رباح : يجزىء الصغير المولود بين المسلمين ، وقالت جماعة منهم مالك بن أنس : يجزىء كل من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة عليه إن مات ودفنه ، قال مالك : ومن صلى وصام أحب إليّ ، وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكثير كقطع اليدين أو الرجلين أو الأعمى لا يجزىء فيما حفظت ، فإن كان النقصان يسيراً تتفق له معه المعيشة والتحرف ، كالعرج ونحوه ففيه قولان ، و { مسلمة } معناه مؤادة مدفوعة ، وهي على العاقلة فيما جاز ثلث الدية ، و { إلا أن يصدقوا } يريد أولياء القتيل ، وقرأ أبي بن كعب «يتصدقوا » وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعبد الوارث عن أبي عمرو «تصدقوا » بالتاء على المخاطبة للحاضر ، وقرأ نبيح العنزي{[4195]} «تصدقوا » بالتاء وتخفيف الصاد ، و«الدية » مائة من الإبل على أهل الإبل عند قوم ، وعند آخرين على الناس كلهم ، إلا أن لا يجد الإبل أهل الذهب والفضة ، فحينئذ ينتقلون إلى الذهب والفضة ، يعطون منها قيمة الإبل في وقت النازلة بالغة ما بلغت ، واختلف في المائة من الإبل ، فقال علي بن أبي طالب : هي مربعة ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون{[4196]} ، وقال عبد الله بن مسعود : مخمسة ، عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ذكراً ، ولبعض الفقهاء غير هذا الترتيب ، وعمر بن الخطاب وغيره يرى الدية من البقر مائتي بقرة . ومن الغنم ألفي شاة ، ومن الحلل مائة حلة ، وورد بذلك حديث عن النبي عليه السلام في مصنف أبي داود{[4197]} ، والحلة ثوبان من نوع واحد في كلام العرب ، وكانت في ذلك الزمن صفة تقاوم المائة من الإبل ، فمضى القول على ذلك ، وأما الذهب فهي ألف دينار ، قررها عمر ومشى الناس عليها ، وأما الفضة فقررها عمر اثني عشر ألفاً ، وبه قال مالك ، وجماعة تقول : عشرة آلاف درهم . وقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } الآية . المعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وإبراهيم وعكرمة وغيرهم ، فإن كان هذا المقتول خطأ رجلاً مؤمناً ، قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم ، فلا دية فيه ، وإنما كفارته تحرير الرقبة ، والسبب عندهم في نزولها أن جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمر بقبائل الكفار فربما قتل من قد آمن ولم يهاجر ، أو من قد هاجر ثم رجع إلى قومه ، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار ، فنزلت الآية ، وتسقط الدية عند قائلي هذه المقالة لوجهين ، أولهما أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع الدية إليهم يتقوون بها ، والآخر أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة ، فلا دية فيه ، واحتجوا بقوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا }{[4198]} وقالت فرقة : بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط ، فسواء كان القتيل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ، لم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه ، كفارته التحرير ولا دية فيه ، لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقائل المقالة الأولى يقول : إن قتل المؤمن في بلد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة ، وقوله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } المعنى عند الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وغيرهم وإن كان هذا المقتول خطأ مؤمناً من قوم معاهدين لكم ، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، فكفارته التحرير وأداء الدية ، وقرأ الحسن «وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن » وقال ابن عباس والشعبي وإبراهيم أيضاً .

المقتول من أهل العهد خطأ لا يبالى كان مؤمناً أو كافراً على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم والتحرير ، واختلف على هذا في دية المعاهد ، فقال أبو حنيفة وغيره : ديته كدية المسلم ، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقال مالك وأصحابه : ديته على نصف دية المسلم ، وقال الشافعي وأبو ثور : ديته على ثلث دية المسلم ، وقوله تعالى : { فمن لم يجد } الآية يريد عند الجمهور فمن لم يجد العتق ولا اتسع ماله له فيجزيه «صيام شهرين » متتابعين في الأيام لا يتخللها فطر{[4199]} ، وقال مكي عن الشعبي : «صيام الشهرين » يجزىء عن الدية والعتق لمن لم يجدها ، وهذا القول وهم{[4200]} ، لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل ، والطبري حكى القول عن مسروق ، و { توبة } نصب على المصدر معناه رجوعاً بكم إلى التيسير والتسهيل .


[4188]:- البيت لأبي خراش الهذلي. وسُقام بضم السين ثم قاف: اسم واد بالحجاز، وقد رواه في اللسان: "غير الذئاب ومر الريح" بدلا من: "إلا السباع وإلا الريح".
[4189]:- قال جرير هذا البيت من قصيدة في هجاء عياش بن الزبرقان، ومطلع القصيدة: أمن عهد ذي عهد تفيض مدامعي كأن قذى العينين من حب فلفل ورواية الديوان: "إلا نيرمرط مرحّل". ومعنى مرحّل: معلَم، وهو ضرب من برود اليمن، سُمي مرحّلا لأن عليه تصاوير رحل- يقول: لم تلبس إلا مرطا من خز معلم. والمرط: كساء من خز أو صوف أو كتان يؤتزر به وتتلفع به المرأة. والنير- على ما جاء في رواية الديوان-: الخيوط مع القصب وهي ملفوفة عليه، أو رقم الثوب ورسمه يُجعل على حاشيته، أو لحمة الثوب.
[4190]:- على وزن (عصا)، لأنه خفف الهمزة بإبدالها ألفا، أو حذفها حذفا كما وضحه أبو حيان.
[4191]:- على وزن (سماء).
[4192]:- اختلف في اسم أبيه، فهو مرة (يزيد)، وهو مرة أخرى (زيد)، وكذلك اختلف في اسم جده، فهو في "الدر المنثور" ابن نبيشة كما قال ابن عطية، وهو مرة "ابن أنيسة" كما قال في الإصابة، وعلى كل فهو من موالي بني عامر بن لؤي. أما عياش بن ربيعة المخزومي فهو من السابقين إلى الإسلام، أسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، ومات بمكة.
[4193]:- أخرجه ابن جرير عن عكرمة، وأخرج هو وابن المنذر مثله عن السدي، وأخرج مثله أيضا ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. (الدر المنثور).
[4194]:- أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، كانوا في سرية، فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له، فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه السيف، فقال: لا إله إلا الله، فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم، ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا شققت عن قلبه؟ فقال: ما عسيت أجد؟ هل هو يا رسول الله إلا دم أو ماء؟ فقال: فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه، قال: كيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله؟ قال: فكيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله؟ حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي، قال: ونزل القرآن {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} حتى بلغ {إلا أن يصدقوا} قال: إلا أن يضعوها. (الدر المنثور).
[4195]:- قال معلق القرطبي، "كذا في الأصول وابن عطية، والمتبادر: أبو نجيح، وهو عصمة بن عروة البصري، روى عن أبي عمرو وعاصم، وأما نُبيح فلم نقف عليه في القراء، وفي التهذيب: نبيح بالتصغير ابن عبد الله العنزي أبو عمرو الكوفي، وفي التاج: تابعي، فهذا لم تذكر عنه قراءة، والله أعلم" (القرطبي 5/ 323).
[4196]:- الحقة: هي التي تستحق الحمل، والجذعة من الإبل: ما كان فوق أربعة وعشرين شهرا، وبنت المخاض: هي التي تتبع أمها وقد حملت الأم، وبنت اللبون: هي التي تتبع أمها وهي ترضع منها. شرح ذلك محمد بن عيسى الأعشى في المزنية، وذكره الباجي في شرح الموطأ. وقال النضر بن شميل: "ابنة مخاض لسنة، وابنة لبون لسنتين، وحقه لثلاث، وجذعة لأربع، والمثنى لخمس، ورباع لست، وسديس لسبع، وبازل لثمان".
[4197]:- أخرجه أبو داود عن جابر بن عبد الله، وفي آخر الحديث: (وعلى أهل القمح شيء لم يحفظه محمد بن إسحاق). (الدر المنثور).
[4198]:- من الآية (72) من سورة (الأنفال).
[4199]:- فإن عرض حيض في أثناء الصيام لم يعدّ قاطعا، قال أبو حيان في "البحر": "بإجماع"، وقال القرطبي: "والحيض لا يمنع التتابع من غير خلاف".
[4200]:- قال أبو حيان في "البحر": "وليس بوهم، بل هو ظاهر الآية كما ذكرناه".