قوله : ( وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ اَنْ يَّقْتُلَ مُومِناً اِلاَّ خَطَئاً ) الآية [ 92 ] .
قوله : ( اِلاَّ خَطَئاً )( {[13158]} ) استثناء ليس من الأول( {[13159]} ) .
وإلا عند البصريين في هذا النوع بمعنى لكن( {[13160]} ) .
وهذا كلام أوله حظر ، وآخره في الظاهر إباحة ، وقتل المؤمن لا يباح لكنه محمول على المعنى الباطن( {[13161]} ) ، ومعناه ما كان مؤمن ليقتل مؤمناً( {[13162]} ) على النفي ، والنفي يستثنى منه الإثبات ، فهو محمول على معنى الأول وباطنه ، فالمعنى أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ فهو خبر ، خبر بأنه قد يقع ، وليس بإطلاق ولا إباحة قتل ، ومثله ( مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَّلَدٍ )( {[13163]} ) فظاهر هذا الحظر ، والله لا يحظر عليه .
ومعنى الآية : أنه ليس لمؤمن قتل مؤمن البتة إلا أن يقتله خطأ ، فإن قتله خطأ ، فعليه تحرير رقبة في ماله ، ودية مسلمة إلى أهل المقتول يؤديها عاقلة القاتل ( إِلاَّ أَنْ يَّصَّدَّقُوا ) أي : أن يتصدق أولياء المقتول على عاقلة القاتل بديته فيسقط عنهم الدية .
وقرأ أبو عبد الرحمان السلمي( {[13164]} ) :
( إِلاَّ أَنْ يَّصَّدَّقُوا ) بالتاء( {[13165]} ) أراد : تتصدقوا ثم أدغم .
قال مجاهد وغيره : هذه الآية نزلت في عيا[ ش ]( {[13166]} ) ابن أبي ربيعة( {[13167]} ) قتل( {[13168]} ) رجلاً مؤمناً يحسب أنه كافر ، وقد كان ذلك الرجل يعذب عياشاً بمكة ، أخبر عياش النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ اَنْ يَّقْتُلَ مُؤْمِناً اِلاَّ خَطَئاً )( {[13169]} ) .
قال ابن زيد : نزلت في أبي عامر( {[13170]} ) ، والد أبي الدرداء خرج في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة ، فوجد رجلاً في غنم ، فقتله ، وكان يقول : لا إله إلا الله ، وأخذ غنمه فوجد من ذلك في نفسه ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأنكر عليه النبي ( عليه السلام( {[13171]} ) ) قتله ، إذ قال( {[13172]} ) : لا إله إلا الله فنزلت( {[13173]} ) الآية( {[13174]} ) : وقيل : نزلت في اليمان( {[13175]} ) والد حذيفة( {[13176]} ) ، واسمه حسل من بني عيسى قتل خطأ يوم أحد( {[13177]} ) .
وروي أن حذيفة وأبا الدرداء تصدقا( {[13178]} ) بدية أبويهما على من قتلهما ، وكذلك قتل هشام بن صبابة الكناني( {[13179]} ) خطأ فنزلت الآية في ذلك .
والآية عند جماعة العلماء عامةن في كل من قتل خطأ واختلف في الرقبة ، فقيل( {[13180]} ) : لا يُعْتَق إلا مؤمن قد صام وصلى وعقل وبلغ( {[13181]} ) ، وقيل( {[13182]} ) : كل مؤمن يجزئ وإن لم يبلغ .
ومعنى ( وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ ) أي موفرة ، والدية مائة من الإبل على أهل الإبل( {[13183]} ) .
وروي عن عمر أن على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشرة( {[13184]} ) آلاف( {[13185]} ) درهم( {[13186]} ) .
قال مالك( {[13187]} ) : على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق( {[13188]} ) إثني عشر ألف درهم( {[13189]} ) .
وقي : دية الحر مائة من الإبل لا يجزئ غيرها( {[13190]} ) ، وبه قال الشافعي ، قال إلا ألا توجد فيُأخذ الفدية( {[13191]} ) ، ويجعل [ الإبل( {[13192]} ) ] خمسة أخماس خمس جذاع( {[13193]} ) وخمس حقاق( {[13194]} ) وخمس بنات لبون( {[13195]} ) . وخمس بنات مخاض( {[13196]} ) وخمس بنو لبون( {[13197]} ) ، وهو قول لمالك( {[13198]} ) والشافعي( {[13199]} ) وغيرهما( {[13200]} ) .
ودية المرأة نصف دية الرجل ، وهو قول جماعة الصحابة والتابعين ، والفقهاء( {[13201]} ) ، إلا الشاذ منهم .
وأهل الذهب : الشام ومصر ، وأهل الورق أهل العراق وأهل الإبل أهل البوادي .
وكل ما جناه جان خطأ فعلى عاقلته( {[13202]} ) الدية ، إلى أن يكون الذي يجب( {[13203]} ) في ذلك أقل من ثلث الدية ، فليس على العاقلة شيء ، وذلك في مال الجاني ، وتؤجل دية الخطأ في ثلاث سنين ، وثلث الدية تؤديها العاقلة في سنة ، ونصف الدية يجتهد فيها الإمام ، فيجعلها في سنتين أو في سنة ونصف وثلاثة أرباع الدية في ثلاث سنين ، وهي على الرجال البالغين دون النساء والصبيان ، وليس على كل واحد شيء معلوم ولكن على كل واحد قدر يسره ، فأما دية العمد فهي على القاتل خاصة إذا قبلت منه .
وقوله : ( فَإِنْ كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُومِنٌ ) أي : فإن كان المقتول خطأ من قوم كفار أعداء لكم ( وَهُوَ مُومِنٌ ) أي : والمقتول مؤمن فقتله مؤمن يظن أنه كافر ( فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ مُّومِنَةٍ ) أي : فعليه ذلك .
قال عكرمة : هو الرجل يسلم في دار الحرب ، فيقتل يظن أنه كافر ، فليس فيه دية ، وفيه الكفارة : تحرير رقبة مؤمنة .
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال : إنما ذلك في حرب( {[13204]} ) رسول الله عليه السلام أهل مكة ، يكون فيهم الرجل المؤمن لم يهاجر( {[13205]} ) ، وأقام معهم فيصيبه المسلمون خطأ ، فليس على المسلمين فيه دية لأنه( {[13206]} ) تعالى ( يقول ) : ( {[13207]} ) ( وَالذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمُ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا ) ( {[13208]} ) ، وعليهم الكفارة تحرير رقبة على كل نفس( {[13209]} ) .
وقال ابن عباس والسدي وغيرهما : هو أن يكون الرجل مؤمناً ، وقومه كفار لا عهد لهم ، فيقتل خطأ ، فليس لأهله دية لأنهم كفار ، وعلى القاتل الكفارة تحرير رقبة ، وقاله قتادة( {[13210]} ) .
وقال الحسن البصري ، وجابر بن زيد : هو مؤمن من قوم معاهدين ، وهو قول مالك( {[13211]} ) .
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : كان الرجل يسلم ، ثم يأتي قومه ، فيقيم فيهم ، وهم مشركون ، فيمر بهم الجيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقتل فيمن قتل فلا دية فيه ، وفيه الكفارة( {[13212]} ) .
قوله : ( وَإِنْ كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيْثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّومِنَةٍ ) الآية [ 91 ] .
المعنى : وإن كان المقتول خطأ بين أظهرهم من قوم كفار بينكم( {[13213]} ) وبينهم عهد ، ففيه الدية إلى أهله ، والكفارة تحرير رقبة مؤمنة .
وقيل : المعنى : إن كان المقتول خطأ في دار قومه من قوم كفار بينكم وبينهم عهد ففيه الدية والكفارة [ كسائر المؤمنين( {[13214]} ) ، واختلف في المقتول هنا : فقيل عن ابن( {[13215]} ) عباس أنه إن كان كافراً ، ففيه الدية والكفارة ]( {[13216]} ) كالمؤمن لأن له عهداً وميثاقاً .
وقال الزهري : دية الذمي دية المسلم( {[13217]} ) .
وقيل : المراد به إن كان المقتول مؤمناً قتل خطأ ، وهو من قوم كفار بينكم وبينهم عهد ففيه الدية إلى قومه الكفار ، وفيه تحرير الرقبة المؤمنة قاله النخعي( {[13218]} ) ومثله روى ابن القاسم عن مالك أنه قال : ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين المشركين أنه إن أصيب مسلم كان بين أظهركم لم يهاجر وأصيب خطأ فإن ديته على المسلمين يردونها( {[13219]} ) إلى قومه الذين كان بين أظهركم( {[13220]} ) الكفار ، ومما يبين ذلك أن أبا جندل( {[13221]} ) ورجل آخر أتيا النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين في الهدنة( {[13222]} ) ، فردهما إليهم( {[13223]} ) فكما كان لهم أن يردوا إليهم ، فكذلك كانت ديته لهم( {[13224]} ) إذا قتل خطأ ، ودية الخطأ عند مالك( {[13225]} ) والشافعي( {[13226]} ) في هذا تؤدى في ثلاث سنين على كل رجل ربع دينار ، وروي ذلك عن جابر بن عبد الله ، وقاله الحسن( {[13227]} ) .
وكان الطبري يختار أن يكون المقتول من أهل الذمة( {[13228]} ) لأن الله سبحانه وتعالى لم يقل( {[13229]} ) : " وهو مؤمن " كما قال في الأول ( فَإِنْ كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُومِنٌ ) وقد قال جماعة : إن دية الذمي( {[13230]} ) والمسلم سواء( {[13231]} ) ، وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان وابن مسعود ومعاوية( {[13232]} ) . وقال عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير : دية الكتابي نصف دية المسلم( {[13233]} ) ، وبه قال عطاء وابن المسيب والحكم وعكرمة( {[13234]} ) ، وهو قول الشافعي( {[13235]} ) .
فأما دية المجوسي فثمان مائة درهم( {[13236]} ) روي ذلك عن عمر بن الخطاب ، وبه قال ابن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار( {[13237]} ) ، والحسن وعكرمة( {[13238]} ) ومالك( {[13239]} ) والشافعي( {[13240]} ) .
وقال عمر بن عبد العزيز( {[13241]} ) : دية المجوسي نصف دية المسلم( {[13242]} ) .
وروى عن النخعي والشعبي والثوري أن ديته مثل دية المسلم( {[13243]} ) .
وإذا قَتل العبد المؤمن حراً مؤمناً خطأ ، فدمه في رقة العبد وأن لا دية فيه لأن العبد لا عاقلة له وعلى العبد الكفارة ، فعتق رقبة على قول من قال : إن العبد يملك ما لم يمنعه سيده ، ومن قال : لا يملك العبد ، فعليه صيام شهرين متتابعين ، وكذلك حكمه في الظهار( {[13244]} ) لا يجزئه الصيام في قول مالك لأنه عنده يملك( {[13245]} ) .
قوله : ( فَمَنْ لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ) أي : لم يجد رقبة مؤمنة لعسرته ، وقلة ما في يده ، فعليه صيام شهرين متتابعين .
وقال الشعبي : صوم الشهرين عن الدية والرقبة جميعاً إذا لم يجدها لفقره ، وفقر عاقلته .
وقال الطبري : عن الرقبة خاصة لأن الدية على العاقلة ، وهو قول جماعة العلماء( {[13246]} ) .
قوله : ( تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ ) مصدر ، وقيل مفعول من أجله( {[13247]} ) .
( وَكَانَ اللَّهُ ) أي : لم يزل بما يصلح عباده ( حَكِيماً ) " فيما يقضي به ويأمر " .
قوله : ( فَمَنْ لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ )( {[13248]} ) الآية [ 92 ] .
قيل : ( {[13249]} ) معناه : من لم يجد الدية ، ولا الرقبة ، فليصم شهرين متتابعين . وقيل( {[13250]} ) : معناه : من لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين ، وهذا القول أولى( {[13251]} ) لأن الدية لم تجب على القاتل خطأ فيكون الصيام يقوم مقامها( {[13252]} ) ، وإنما وجبت الدية في الخطأ على العاقلة ، فلا يجزئ عنها صوم القاتل .