الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (92)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً . . . } [ النساء :92 ] .

قال جمهورُ المفسِّرين : معنى الآية : وما كان في إذْنِ اللَّه ، وفي أمره للمؤمن أن يَقْتُلَ مؤمناً بوَجْهٍ ، ثم استثنَى استثناء منقطعاً ليس من الأول ، وهو الذي تكُونُ فيه «إلاَّ » بمعنى «لَكِنْ » ، والتقديرُ : لَكِنِ الخطأُ قدْ يَقَعُ ، ويتَّجِهُ في معنى الآيةِ وَجْهٌ آخر ، وهو أنْ تقدَّر «كَانَ » بمعنى «استقر » ، و«وُجِدَ » ، كأنه قال : وما وُجِدَ ، ولا تقرَّر ، ولا سَاغَ لمؤْمِنٍ ، أنْ يقتُلَ مؤمناً إلا خطأً ، إذ هو مغلوبٌ فيه ، فيجيءُ الاستثناءُ على هذا متَّصلاً ، وتتضمَّن الآية على هذا إعْظَامَ العَمْد ، وبَشَاعَةَ شأنه .

وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خطأً } ، حقيقةُ الخَطَأ أن لاَّ يقصده بالقَتْلِ ، ووجوهُ الخَطَأ كثيرةٌ لا تحصى ، يربطها عَدَمُ القَصْد ، قال ابنُ عَبَّاس ، وغيره : الرَّقَبَةُ المؤمنةُ : هي الكَبِيرَةُ الَّتي قَدْ صَلَّتْ وعَقَلَتِ الإيمان ، وقالَتْ جماعة ، منهم مالكُ بْنُ أنَسٍ : يجزئ كُلُّ مَنْ يُحْكَم له بحُكْم الإسلام في الصلاة عليه ، إنْ مات ، قال مالك : ومَنْ صلى وصَامَ أحَبُّ إلَيَّ ، ولا يجزئُ ذو العَيْب الكثِيرِ ، كَقْطَعِ اليَدَيْنِ ، أو الرجْلَيْن ، أو الأعمى ، إجماعاً فيما عَلِمْتُ ، و{ مُّسَلَّمَةٌ } : معناه مؤَدَّاة مدفوعةٌ ، وهي على العاقلةِ فيما جَاوَز ثُلُثَ الدية ، و{ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } يريدُ : أولياءَ القَتِيلِ ، وقوله : { فإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لكم وهو مؤمن } ، أيْ : وإنْ كان هذا المقتولُ خطأً مؤمناً قَدْ آمَنَ ، وبَقِيَ في قَوْمِهِ ، وهم كَفَرَةٌ عدُوٌّ لكم ، فلا ديةَ فيه ، وإنما كفَّارته تحريرُ الرَّقَبة ، قال ابنُ عَبَّاس ، وغيره : وسقَطَتِ الديةُ عندهم ، لوجهين أحدهما :

أنَّ أولياء المقتولِ كُفَّار ، فلا يصحُّ دفع الديةِ إلَيْهم ، والآخر : قلَّة حُرْمَة هذا المقتولِ ، فلا دِيَةَ فيه .

واحتجُّوا بقوله تعالى : { والذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُوا } [ الأنفال : 72 ] .

وقالت فرقةٌ : بل الوجْهُ في سقوط الدِّية أنَّ الأولياء كُفَّار فقطْ ، وسواءٌ قُتِلَ بين أظْهُر المسلمين أو بَيْن قومه الكُفَّار ، لأنه لا يصحُّ دفعها إلى الكفَّار .

قال ( ع ) : وقائِلُ المقالة الأولى يقول : إن قُتِلَ المؤمنُ في بَلَدِ المسلمينَ ، وقومُهُ حَرْبٌ ، ففيه الديةُ لبَيْتِ المالِ والكَفَّارة .

وقوله تعالى : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ }[ النساء :92 ] ،

قال ابنُ عَبَّاس ، وغيره : المقتولُ من أهل العَهْدِ خطأً لا نُبَالِي ، كانَ مؤْمناً أو كافراً ، على عهد قومِهِ فيهِ الدِّيَةُ والتَّحْرير .

وقوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ . . . } الآية ، أي : فَمَنْ لم يَجِدِ الرقَبَةَ ولا اتسع ماله لشرائها ، فيجزيه صيامُ شَهرَيْنِ متتابعةِ الأيَّامِ ، لا يتخلَّلها فِطْرٌ ، و{ تَوْبَةً } نصْبٌ على المَصْدر ، ومعناه : رجُوعاً بكُمْ إلى التَّيْسير والتَّسْهيل .