{ والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان } الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين ، والمراد بهم الأنصار ؛ والتبوّؤ النزول في المكان ، ومنه المباءة للمنزل ؛ ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر ، وأما نسبته إلى الإيمان فباعتبار جعله مستقراً ومتوطناً على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية ، والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى داراً وهي التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوّؤهم إياها مدحاً لهم .
علفتها تبناً وماءاً بارداً *** أي تبوأوا الدار وأخلصوا الإيمان ، وقيل : التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل : لزموا الدار والإيمان ، وقيل : في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد ، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة وفي { والإيمان } حذف مضاف أي ودار الإيمان فكأنه قيل : تبوأوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدنية ، والعطف كما في قولك : رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيداً ، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف ، وقيل : إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى ، وقيل : الواو للمعية والمراد تبوأوا الدار مع إيمانهم أي تبوأوها مؤمنين ، وهو أيضاً ليس بشيء ، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولاً ، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة ، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة . وطابة . ويثرب . وجابرة إلى غير ذلك .
وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثاً مرفوعاً يدل على ذلك { مِن قَبْلِهِمُ } أي من قبل المهاجرين ، والجار متعلق بتبوأوا ، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين ، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال : إن الأمر بالعكس ، وجوز أن لا يقدر مضاف ، ويقال : ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فهي لما أظهروه .
وقيل : الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير تبوأوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبوىء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة ههنا ؛ وقيل : لا حاجة إلى شيء مما ذكر ، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوىء الأنصاري وإيمانهم على تبوىء المهاجرين وإيمانهم ، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو ههنا تبوؤ الدار ، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصح أن يقال : بتقدم تبوىء المهاجرين وإيمانهم على تبوىء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } في موضع الحال من الموصول ، وقيل : استئناف ، والكلام قيل : كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم ، وقيل : على ظاهره أي يحبون المهاجرين إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الإيمان { وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ } أي ولا يعلمون في أنفسهم .
{ حَاجَةً } أي طلب محتاج إليه { مّمَّا أُوتُواْ } أي مما أعطى المهاجرون من الفيء وغيره ، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه ، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز ، والحاجة بمعنى المحتاج إليه ، وهو استعمال شائع يقال : خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته ، و { مِنْ } تبعيضية ، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب ، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس .
ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون في أنفسهم ما يحمل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطى المهاجرون على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها ، وقيل : على أنها كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم ، وما تقدم أولى ، وقول بعضهم : أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب ، و { مِنْ } في قوله تعالى : { مّمَّا أُوتُواْ } تعليلية { وَيُؤْثِرُونَ } أي يقدمون المهاجرين { عَلَى أَنفُسِهِمْ } في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحداً منهم ، ويجوز أن لا يعتبر مفعول يؤثرون خصوص المهاجرين ، أخرج البخاري . ومسلم . والترمذي . والنسائي . وغيرهم عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً فقال عليه الصلاة والسلام : " ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله ؟ فقام رجل من الأنصار وفي رواية فقال أبو طلحة : أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فاطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما { وَيُؤْثِرُونَ } " الخ .
وأخرج الحاكم وصححه . وابن مردويه . والبيهقي في «الشعب » عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقي بين عيدانه من الفرج والفتوح ، والجملة في موضع الحال ، وقد تقدم وجه ذلك مراراً { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال :
يمارس نفساً بين جنبيه كزة *** إذا هم بالمعروف قالت له مهلاً
وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، وقال الراغب : الشح بخل مع حرص ؛ وذلك فيما كان عادة ، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس ، وأخرج عبد بن حميد . وابن جرير . وابن أبي شيبة . وابن أبي حاتم . والبيهقي في «الشعب » . والحاكم وصححه . وجماعة عن ابن مسعود أن رجلاً قال له : إني أخاف أن يكون قد هلكت قال : وما ذاك ؟ قال : إني سمعت الله تعالى يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود : ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل ، وإن الشح الذي ذكره الله تعالى أن تأكل مال أخيك ظلماً ، وأخرج ابن المنذر . وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ليس الشح أن يمنع الرجل ما له ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له ، ولم أر لأحد من اللغويين شيئاً من هذه التفاسير للشح ، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون ، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلماً أو تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل .
وقرأ أبو حيوة . وابن أبي عبلة { وَمَن يُوقَ } بشدّ القاف ، وقرأ ابن عمر . وابن أبي عبلة { شُحَّ } بكسر الشين ، وجاء في لغة الفتح أيضاً ، ومعنى الكل واحد ، ومعنى الآية ومن يوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الانفاق { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه ، والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولاً أولياً ، وفي الإفراد أولاً والجمع ثانياً رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عدداً وكثرتهم معنى :
والناس ألف منهم كواحد *** وواحد كالألف إن أمر عنا
ويفهم من الآية ذم الشح جداً ، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه ، أخرج الحكيم الترمذي . وأبو يعلى . وابن مردويه عن أنس مرفوعاً " ما محق الإسلام محق الشح شيء قط " وأخرج ابن أبي شيبة . والنسائي . والبيهقي في «الشعب » . والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعاً " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبداً ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبداً " .
وأخرج أبو داود . والترمذي وقال غريب والبخاري في الأدب . وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً " خصلتان لا يجتمعان في جوف مسلم البخل وسوء الخلق " وأخرج ابن أبي الدنيا . وابن عدي . والحاكم . والخطيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها : انطقي فقالت : قد أفلح المؤمنون فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } " .
وأخرج أحمد . والبخاري في «الأدب » . ومسلم . والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " إلى غير ذلك من الأخبار ، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جواداً بكل شيء ، فقد أخرج عبد بن حميد . وأبو يعلى . والطبراني . والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعاً " برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة " .
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه ، وكذا ابن جرير . والبيهقي عن أنس ، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه .