روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

{ والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان } الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين ، والمراد بهم الأنصار ؛ والتبوّؤ النزول في المكان ، ومنه المباءة للمنزل ؛ ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر ، وأما نسبته إلى الإيمان فباعتبار جعله مستقراً ومتوطناً على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية ، والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى داراً وهي التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوّؤهم إياها مدحاً لهم .

وقال غير واحد : الكلام من باب

علفتها تبناً وماءاً بارداً *** أي تبوأوا الدار وأخلصوا الإيمان ، وقيل : التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل : لزموا الدار والإيمان ، وقيل : في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد ، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة وفي { والإيمان } حذف مضاف أي ودار الإيمان فكأنه قيل : تبوأوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدنية ، والعطف كما في قولك : رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيداً ، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف ، وقيل : إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى ، وقيل : الواو للمعية والمراد تبوأوا الدار مع إيمانهم أي تبوأوها مؤمنين ، وهو أيضاً ليس بشيء ، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولاً ، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة ، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة . وطابة . ويثرب . وجابرة إلى غير ذلك .

وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثاً مرفوعاً يدل على ذلك { مِن قَبْلِهِمُ } أي من قبل المهاجرين ، والجار متعلق بتبوأوا ، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين ، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال : إن الأمر بالعكس ، وجوز أن لا يقدر مضاف ، ويقال : ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فهي لما أظهروه .

وقيل : الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير تبوأوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبوىء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة ههنا ؛ وقيل : لا حاجة إلى شيء مما ذكر ، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوىء الأنصاري وإيمانهم على تبوىء المهاجرين وإيمانهم ، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو ههنا تبوؤ الدار ، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصح أن يقال : بتقدم تبوىء المهاجرين وإيمانهم على تبوىء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } في موضع الحال من الموصول ، وقيل : استئناف ، والكلام قيل : كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم ، وقيل : على ظاهره أي يحبون المهاجرين إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الإيمان { وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ } أي ولا يعلمون في أنفسهم .

{ حَاجَةً } أي طلب محتاج إليه { مّمَّا أُوتُواْ } أي مما أعطى المهاجرون من الفيء وغيره ، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه ، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز ، والحاجة بمعنى المحتاج إليه ، وهو استعمال شائع يقال : خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته ، و { مِنْ } تبعيضية ، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب ، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس .

ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون في أنفسهم ما يحمل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطى المهاجرون على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها ، وقيل : على أنها كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم ، وما تقدم أولى ، وقول بعضهم : أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب ، و { مِنْ } في قوله تعالى : { مّمَّا أُوتُواْ } تعليلية { وَيُؤْثِرُونَ } أي يقدمون المهاجرين { عَلَى أَنفُسِهِمْ } في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحداً منهم ، ويجوز أن لا يعتبر مفعول يؤثرون خصوص المهاجرين ، أخرج البخاري . ومسلم . والترمذي . والنسائي . وغيرهم عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً فقال عليه الصلاة والسلام : " ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله ؟ فقام رجل من الأنصار وفي رواية فقال أبو طلحة : أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فاطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما { وَيُؤْثِرُونَ } " الخ .

وأخرج الحاكم وصححه . وابن مردويه . والبيهقي في «الشعب » عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقي بين عيدانه من الفرج والفتوح ، والجملة في موضع الحال ، وقد تقدم وجه ذلك مراراً { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال :

يمارس نفساً بين جنبيه كزة *** إذا هم بالمعروف قالت له مهلاً

وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، وقال الراغب : الشح بخل مع حرص ؛ وذلك فيما كان عادة ، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس ، وأخرج عبد بن حميد . وابن جرير . وابن أبي شيبة . وابن أبي حاتم . والبيهقي في «الشعب » . والحاكم وصححه . وجماعة عن ابن مسعود أن رجلاً قال له : إني أخاف أن يكون قد هلكت قال : وما ذاك ؟ قال : إني سمعت الله تعالى يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود : ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل ، وإن الشح الذي ذكره الله تعالى أن تأكل مال أخيك ظلماً ، وأخرج ابن المنذر . وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ليس الشح أن يمنع الرجل ما له ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له ، ولم أر لأحد من اللغويين شيئاً من هذه التفاسير للشح ، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون ، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلماً أو تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل .

وقرأ أبو حيوة . وابن أبي عبلة { وَمَن يُوقَ } بشدّ القاف ، وقرأ ابن عمر . وابن أبي عبلة { شُحَّ } بكسر الشين ، وجاء في لغة الفتح أيضاً ، ومعنى الكل واحد ، ومعنى الآية ومن يوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الانفاق { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه ، والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولاً أولياً ، وفي الإفراد أولاً والجمع ثانياً رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عدداً وكثرتهم معنى :

والناس ألف منهم كواحد *** وواحد كالألف إن أمر عنا

ويفهم من الآية ذم الشح جداً ، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه ، أخرج الحكيم الترمذي . وأبو يعلى . وابن مردويه عن أنس مرفوعاً " ما محق الإسلام محق الشح شيء قط " وأخرج ابن أبي شيبة . والنسائي . والبيهقي في «الشعب » . والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعاً " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبداً ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبداً " .

وأخرج أبو داود . والترمذي وقال غريب والبخاري في الأدب . وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً " خصلتان لا يجتمعان في جوف مسلم البخل وسوء الخلق " وأخرج ابن أبي الدنيا . وابن عدي . والحاكم . والخطيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها : انطقي فقالت : قد أفلح المؤمنون فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } " .

وأخرج أحمد . والبخاري في «الأدب » . ومسلم . والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " إلى غير ذلك من الأخبار ، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جواداً بكل شيء ، فقد أخرج عبد بن حميد . وأبو يعلى . والطبراني . والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعاً " برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة " .

وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه ، وكذا ابن جرير . والبيهقي عن أنس ، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه .