روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (75)

{ والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ } أي في بعض أسفاركم ، والمراد بهم قيل : المؤمنون المهاجرون من بعد صلح الحديبية وهي الهجرة الثانية ، وقيل : من بعد نزول الآية ، وقيل : من بعد غزوة بدر ، والأصح أن المراد بهم الذين هارجوا بعد الهجرة الأولى { فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار ، وفيه إشارة إلى أن السابقين هم السابقون في الشرف وأن هؤلاء دونهم فيه ، ويؤيد أمر شرفهم توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات ، وبهذا القسم صارت أقسام المؤمنين أربعة ، والتوارث إنما هو في القسمين الأولين على ما علمت ؛ وزعم الطبرسي أن ذلك الحكم يثبت لهؤلاء أيضاً فيكون التوارث بين ثلاثة أقسام ، وجعل معنى { مّنكُمْ } من جملتكم وحكمهم حكمكم في وجوب الموالاة والموارثة والنصرة ولم أره لأصحابنا .

{ وَأُوْلُواْ الارحام } أي ذوو القرابة { بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } آخر منهم في التوريث من الأجانب { فِي كتاب الله } أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ ، أخرج الطيالسي . والطبراني . وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب ، وأخرج ابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه قال : توارث المسلمون لما قدموا المدينة بالهجروة ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، واستدل بها على توريث ذوي الأرحام الذين ذكرهم الفرضيون ، وذلك لأنها نسخ بها التوارث بالهجرة ولم يفرق بين العصبات وغيرهم فيدخل من لا تسمية لهم ولا تعصيب وهم هم وبها أيضاً احتج ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم . والحاكم على أن ذوي الأرحام أولى من مولى العتاقة ، ولما سمع الحبر قال : هيهات هيهات أين ذهب ؟ إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الاعراب فنزلت ، وخالفه سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضاً على ما قيل . وأنت تعلم أنه ءذا أريد بكتاب الله تعالى آيات المواريث السابقة في سورة النساء أو حكمه سبحانه المعلوم هناك لا يبقى للاستدلال على توريث ذوي الأرحام بالآية وجه ، وكذا ما قاله ابن الفرس من أنه قد يستدل بها لمن قال : إن القريب أولى بالصلاة على الميت من الوالي { أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } ومن جملته ما في تعليق التوارث بالقرابة الدينية أولاً على الوجه السابق وبالقرابة النسبية آخراً من الحكم البالغة .

هذا ومن باب الإشارة : { والذين ءامَنُواْ } الإيمان العلمي { وَهَاجَرُواْ } من أوطان نفوسهم { وجاهدوا بأموالهم } بإنفاقها حتى تخللوا بعباء التجرد والانقطاع إلى الله عز وجل { وَأَنفُسِهِمْ } بإتعابها بالرياضة ومحاربة الشيطان وبذلها في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه { والذين ءاوَواْ } إخوانهم في الطريق ونصروهم على عدوهم بالإمداد { أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } بميراث الحقائق والعلوم النافعة { والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } عن وطن النفس { مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شيء } فلا توارث بينكم وبينهم إذ ما عندكم لا يصلح لهم ما لم يستعدوا له وما عندهم يأباه استعدادكم { حتى يُهَاجِرُواْ } كما هاجرتم فحينئذٍ يثبت التوارث بينكم وبينهم { وَإِنِ استنصروكم في الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } [ الأنفال : 72 ] فإن الدين مشترك ، وعلى هذا الطرز يقال في باقي الآيات والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق .