موقع هاته الآية عقب سابقتها موقع الحجة من الدعوى ، ذلك أن الله تعالى أعلن أن الإله إله واحد لا إله غيره وهي قضية من شأنها أن تُتلقى بالإنكار من كثير من الناس فناسب إقامة الحجة لمن لا يقتنع فجاء بهذه الدلائل الواضحة التي لا يسع الناظر إلاّ التسليم إليها .
فإن هنا لمجرد الاهتمام بالخبر لِلَفْت الأنظار إليه ، ويحتمل أنهم نُزلوا منزلة من ينكر أن يكون في ذلك آيات ( لقوم يعقلون ) لأنهم لم يجروا على ما تدل عليه تلك الآيات .
وليست { إن } هنا بمؤذنة بتعليل للجملة التي قبلها لأن شرط ذلك أن يكون مضمون الجملة التي بعدها صالحاً لتعليل مضمون التي قبلها بحيث يكون الموقع لفاء العطف فحينئذٍ يغني وقوع ( إن ) عن الإتيان بفاء العطف كما ذكره الشيخ عبد القاهر في « دلائل الإعجاز » وقد بسطنا فيه عند قوله تعالى : { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } [ البقرة : 61 ] .
والمقصود من هاته الآية إثبات دلائل وجود الله تعالى ووحدانيته ولذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة . فالآية صالحة للرد على كفار قريش دُهريهم ومشركهم والمشركون هم المقصود ابتداء ، وقد قرر الله في هاته الآية دلائل كلها واضحة من أصناف المخلوقات وهي مع وضوحها تشتمل على أسرار يتفاوت الناس في دركها حتى يتناول كل صنف من العقلاء مقدار الأدلة منها على قدر قرائحهم وعلومهم .
والخلق هنا بمعنى المصدر واختير هنا لأنه جامع لكل ما فيه عبرة من مخلوقات السماوات والأرض ، وللعبرة أيضاً في نفس الهيئة الاجتماعية من تكوين السماوات والأرض والنظام الجامع بينها فكما كل مخلوق منها أو فيها هو آية وعبرة فكذلك مجموع خلقها ، ولعل الآية تشير إلى ما يعبر عنه في علم الهيئة بالنظام الشمسي وهو النظام المنضبط في أحوال الأرض مع الكواكب السيارة المعبر عنها بالسماوات .
و { السموات } جمع سماء والسماء إذا أطلقت مفردة فالمراد بها الجو المرتفع فوقنا الذي يبدو كأنه قبة زرقاء وهو الفضاء العظيم الذي تسبح فيه الكواكب وذلك المراد في نحو قوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] ، { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } [ الصافات : 6 ] ، { وأنزل من السماء ماء } [ البقرة : 22 ] . وإذا جمعت فالمراد بها أجرام عظيمة ذات نظام خاص مثل الأرض وهي السيارات العظيمة المعروفة والتي عرفت من بعد والتي ستعرف : عطارد والزهرة والمريخ والشمس والمشتري وزحل وأرانوس ونبتون . ولعلها هي السموات السبع والعرش العظيم ، وهذا السر في جمع ( السموات ) هنا وإفراد ( الأرض ) لأن الأرض عالم واحد وأما جمعها في بعض الآيات فهو على معنى طبقاتها أو أقسام سطحها .
والمعنى إن في خلق مجموع السموات مع الأرض آيات ، فلذلك أفرد الخلق وجعلت الأرض معطوفاً على السموات ليتسلط المضاف عليهما .
والآية في هذا الخلق { لقوم يعقلون } آية عظيمة لمن عرف أسرار هذا النظام وقواعد الجاذبية التي أودعها الله تعالى في سير مجموع هاته السيارات على وجه لا يعتريه خلل ولا خرق { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } [ يس : 40 ] ، وأعظم تلك الأسرار تكوينها على هيئة كرية قال الفخر كان عمر بن الحسام يقرأ « كتاب المجسطي » على عمر الأبهري فقال لهما بعض الفقهاء يوماً ما الذي تقرءونه فقال الأبهري أفسِّر قوله تعالى : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } [ ق : 6 ] فأنا أفسر كيفية بنائها ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار المخلوقات كان أكثر علماً بجلال الله تعالى وعظمته اهـ .
قلت ومن بديع هذا الخلق أن جعله الله تعالى يمد بعضه بعضاً بما يحتاجه كلٌّ فلا ينقص من الممدِّ شيء ، لأنه يُمده غيرهُ يما يُخلف له ما نقص ، وهكذا نجد الموجودات متفاعلة ، فالبحر يمد الجو بالرطوبة فتكون منه المياه النازلة ثم هو لا ينقص مع طول الآباد لأنه يمده كل نهر وواد .
وهي آية لمن كان في العقل دون هاته المرتبة فأدرك من مجموع هذا الخلق مشهداً بديعاً في طلوع الشمس وغروبها وظهور الكواكب في الجو وغروبها .
وأما الاعتبار بما فيها من المخلوقات وما يحف بها من الموجودات كالنجوم الثوابت والشهب وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار وحيوان فذلك من تفاريع تلك الهيئة الاجتماعية .
وقوله : { واختلاف الليل والنهار } تذكير بآية أخرى عظيمة لا تخفى على أحد من العقلاء وهي اختلاف الليل والنهار أعني اختلاف حالتي الأرض في ضياء وظلمة ، وما في الضياء من الفوائد للناس وما في الظلمة من الفوائد لهم لحصول سكونهم واسترجاع قواهم المنهوكة بالعمل .
وفي ذلك آية لخاصة العقلاء إذ يعلمون أسباب اختلاف الليل والنهار على الأرض وأنه من آثار دوران الأرض حول الشمس في كل يوم ولهذا جعلت الآية في اختلافهما وذلك يقتضي أن كلاً منهما آية .
والاختلاف افتعال من الخلف وهو أن يجيىء شيء عوضاً عن شيء آخر يخلفه في مكانه والخلفة بكسر الخاء الخلف قال زهير :
« بها العين والآرام يمشين خلفة » . . . وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد تعاكس فوائد الآخر بحيث لو دام أحدهما لانقلب النفع ضرراً { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَنْ إله غير اللَّه يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ، قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة مَنْ إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تُبْصرون } [ القصص : 71 ، 72 ] .
وللاختلاف معنى آخر هو مراد أيضاً وهو تفاوتهما في الطول والقصر فمرة يعتدلان ومرة يزيد أحدهما على الآخر وذلك بحسب أزمنة الفصول وبحسب أمكنة الأرض في أطوال البلاد وأعراضها كما هو مقرر في علم الهيئة ، وهذا أيضاً من مواضع العبرة لأنه آثار الصنع البديع في شكل الأرض ومساحتها للشمس قرباً وبعداً . ففي اختيار التعبير بالاختلاف هنا سر بديع لتكون العبارة صالحة للعبرتين .
والليل اسم لعرض الظلمة والسواد الذي يعم مقدار نصف من كرة الأرض الذي يكون غير مقابل للشمس فإذا حجب قرص الشمس عن مقدار نصف الكرة الأرضية بسبب التقابل الكروي تقلص شعاع الشمس عن ذلك المقدار من الكرة الأرضية فأخذ النور في الضعف وعادت إليه الظلمة الأصلية التي ما أزالها إلاّ شعاع الشمس ويكون تقلص النور مدرجاً من وقت مغيب قرص الشمس عن مقابلة الأفق ابتداء من وقت الغروب ثم وقت الشفق الأحمر ثم الشفق الأبيض إلى أن يحلك السواد في وقت العشاء حين بعد قرص الشمس عن الأفق الذي ابتدأ منه المغيب ، وكلما اقترب قرص الشمس من الأفق الآخر أكسبه ضياء من شعاعها ابتداء من وقت الفجر إلى الإسفار إلى الشروق إلى الضحى ، حيث يتم نور أشعة الشمس المتجهة إلى نصف الكرة تدريجاً . وذلك الضياء هو المسمى بالنهار وهو النور التام المنتظم على سطح الكرة الأرضية وإن كان قد يستنير سطح الكرة بالقمر في معظم لياليه استنارة غير تامة ، وبضوء بعض النجوم استنارة ضعيفة لا تكاد تعتبر .
فهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما وخلف أحدهما الآخر ، ومن بلاغة علم القرآن أن سمى ذلك اختلافاً تسمية مناسبة لتعاقب الأعراض على الجوهر لأنه شيء غير ذاتي فإن ما بالذات لا يختلف فأومأ إلى أن الليل والنهار ليسا ذاتين ولكنهما عرضان خلاف معتقد الأمم الجاهلة أن الليل جسم أسود كما صوره المصريون القدماء على بعض الهياكل وكما قال امرؤ القيس في الليل :
فقلتُ له لما تمطى بصُلبه *** وأردفَ أعجازاً ونَاءَ بكلكل
وقال تعالى في سورة الشمس : { والنهار إذا جلاها ، والليل إذا يغشاها } [ الشمس : 3 4 ] .
وقوله : { والفلك } عطف على { خلق } و { اختلاف } فهو معمول لفي أي وفي الفلك ، ووصفها بالتي تجري الموصول لتعليل العطف أي إن عطفها على خلق السماوات والأرض في كونها آية من حيث إنها تجري في البحر ، وفي كونها نعمة من حيث إنها تجري بما ينفع الناس ، فأما جريها في البحر فهو يتضمن آيتين ، إحداهما آية خلق البحر الذي تجري فيه الفلك خلقاً عجيباً عظيماً إذ كان ماء غامراً لأكثر الكرة الأرضية وما فيه من مخلوقات وما ركب في مائه من الأملاح والعقاقير الكيمياوية ليكون غير متعفن بل بالعكس يخرج للهواء أجزاء نافعة للأحياء على الأرض ، والثانية آية سير السفن فيه وهو ماء من شأنه أن يتعذر المشي عليه فجري السفن آية من آيات إلهام الله تعالى الإنسان للتفطن لهذا التسخير العجيب الذي استطاع به أن يسلك البحر كما يمشي في الأرض ، وصنع الفلك من أقدم مخترعات البشر ألهمه الله تعالى نوحاً عليه السلام في أقدم عصور البشر .
ثم إن الله تعالى سخر للفلك الرياح الدورية وهي رياح تهب في الصباح إلى جهة وفي المساء إلى جهة في السواحل تنشأ عن إحياء أشعة الشمس في رابعة النهار الهواء الذي في البر حتى يخف الهواء فيأتي هواء من جهة البحر ليخلف ذلك الهواء البري الذي تصاعد فتحدث ريح رخاء من جهة البحر ويقع عكس ذلك بعد الغروب فتأتي ريح من جهة البر إلى البحر ، وهذه الريح ينتفع بها الصيادون والتجار وهي تكون أكثر انتظاماً في مواقع منها في مواقع أخرى .
وسخر للفلك رياحاً موسمية وهي تهب إلى جهة واحدة في أشهر من السنة وإلى عكسها في أشهر أخرى تحدث من اتجاه حرارة أشعة الشمس على الأماكن الواقعة بين مدار السرطان ومدار الجدي ، من الكرة الأرضية عند انتقال الشمس من خط الاستواء إلى جهة مدار السرطان وإلى جهة مدار الجدي ، فتحدث هاته الريح مرتين في السنة وهي كثيرة في شطوط اليمن وحضرموت والبحر الهندي وتسمى الريح التجارية .
وأما كونها نعمة فلأن في هذا التسخير نفعاً للتجارة والزيارة والغزو وغير ذلك ولذلك قال بما ينفع الناس لقصد التعميم مع الاختصار .
والفلك هنا جمع لا محالة لأن العبرة في كثرتها ، وهو ومفرده سواء في الوزن فالتكسير فيه اعتباري وذلك أن أصل مفرده فلك بضمتين كعنق وكسر على فلك مثل عرب وعجم وأسد وخفف المفرد بتسكين عينه لأن ساكن العين في مضموم الفاء فرع مضموم العين ما قصد منه التخفيف على ما بينه الرضي فاستوى في اللفظ المفرد والجمع ، وقيل المفرد بفتح الفاء وسكون اللام والجمع بضم الفاء وضم اللام قيل أسد وأسد وخَشَب وخُشَبُ ثم سكنت اللام تخفيفاً ، والاستعمال الفصيح في المفرد والجمع ضم الفاء وسكون اللام قال تعالى : { واصنع الفلك } [ هود : 37 ] . و { الفلك المشحون } [ الشعراء : 119 ] وقال { والفلك التي تجري في البحر } وقال { والفلك تجري في البحر بأمره } [ إبراهيم : 32 ] ، { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين } [ يونس : 22 ] ، ثم إن أصل مفرده التذكير قال تعالى : { والفلك المشحون } ويجوز تأنيثه على تأويله بمعنى السفينة قال تعالى : { وقال اركبوا فيها } [ هود : 41 ] { وهي تجري بهم } [ هود : 42 ] كل ذلك بعد قوله : { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] .
وكأن هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب إذ عد لفظ الفلك مما أنث بدون تاء ولا ألف فقال في قصيدته « والفلك تجري وهي في القرآن » لأن العبرة باستعماله مؤنثاً وإن كان تأنيثه بتأويل ، وقد قيل إنه يجوز في مفرده فقط ضم اللام مع ضم الفاء وقرىء به شاذاً والقول به ضعيف ، وقال الكواشي هو بضم اللام أيضاً للمفرد والجمع وهو مردود إذ لم ينص عليه أهل اللغة ولا داعي إليه وكأنه قاله بالقياس على الساكن .
وفي امتنان الله تعالى بجريان الفلك في البحر دليل على جواز ركوب البحر من غير ضرورة مثل ركوبه للغزو والحج والتجارة ، وقد أخرج مالك في « الموطأ » وتبعه أهل « الصحيح » حديث أم حرام بنت مِلحان في باب الترغيب في الجهاد الثاني من « الموطأ » عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم . . فنام يوماً ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت ما يضحكك قال ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة قالت فقلت ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها » الحديث . وفي حديث أبي هريرة " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء " الحديث .
وعليه فما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى عمرو بن العاص أن لا يحمل جيش المسلمين في البحر مؤول على الاحتياط وترك التغرير وأنا أحسبه قد قصد منه خشية تأخر نجدات المسلمين في غزواتهم لأن السفن قد يتأخر وصولها إذا لم تساعفها الرياح التي تجري بما لا تشتهي السفن ولأن ركوب العدد الكثير في سفن ذلك العصر مظنة وقوع الغرق ، ولأن عدد المسلمين يومئذٍ قليل بالنسبة للعدو فلا ينبغي تعريضه للخطر فذلك من النظر في المصلحة العامة في أحوال معينة فلا يحتج به في أحكام خاصة للناس . ولما مات عمر استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فركبه لغزو ( قبرص ) ثم لغزو القسطنطينية وفي غزوة ( قبرص ) ظهر تأويل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم حرام ، وقد قيل إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة نهى عن ركوبه ثم ركبه الناس بعده .
وروي عن مالك كراهة سفر المرأة في البحر للحج والجهاد ، قال ابن عبد البر وحديث أم حرام يرد هذه الرواية ولكن تأولها أصحابه بأنه كره ذلك لخشية اطّلاعهن على عورات الرجال لعسر الاحتراز من ذلك فخصه أصحابه بسفن أهل الحجاز لصغرها وضيقها وتزاحم الناس فيها مع كون الطريق من المدينة إلى مكة من البر ممكناً سهلاً وأما السفن الكبار كسفن أهل البصرة التي يمكن فيها الاستتار وقلة التزاحم فليس بالسفر فيها للمرأة بأس عند مالك .
{ وما أنزل الله من السماء من ماء } معطوف على الأسماء التي قبله جيء به اسم موصول ليأتي عطف صلة على صلة فتبقى الجملة بمقصد العبرة والنعمة ، فالصلة الأولى وهي { أنزل الله من السماء من ماء } تذكير بالعبرة لأن في الصلة من استحضار الحالة ما ليس في نحو كلمة المطر والغيث ، وإسناد الإنزال إلى الله لأنه الذي أوجد أسباب نزول الماء بتكوينه الأشياء عند خلق هذا العالم على نظام محكم .
والسماء المفرد هو الجو والهواء المحيط بالأرض كما تقدم آنفاً ، وهو الذي يشاهده جميع السامعين .
ووجه العبرة فيه أن شأن الماء الذي يسقي الأرض أن ينبع منها فجعل الماء نازلاً عليها من ضدها وهو السماء عبرة عجيبة .
وفي الآية عبرة علمية لمن يجيء من أهل العلم الطبيعي وذلك أن جعل الماء نازلاً من السماء يشير إلى أن بخار الماء يصير ماء في الكرة الهوائية عند ما يلامس الطبقة الزمهريرية وهذه الطبقة تصير زمهريراً عندما تقل حرارة أشعة الشمس ، ولعل في بعض الأجرام العلوية وخاصة القمر أهوية باردة يحصل بها الزمهرير في ارتفاع الجو فيكون لها أثر في تكوين البرودة في أعلى الجو فأسند إليها بإنزال الماء مجازاً عقلياً وربما يستروح لهذا بحديث مروي وهو أن المطر ينزل من بحر تحت العرش أي إن عنصر المائية يتكون هنالك ويصل بالمجاورة حتى يبلغ إلى جونا قليل منه فإذا صادفته الأرض تكون من ازدواجهما الماء وقد قال تعالى : { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } [ النور : 43 ] ، ولعلها جبال كرة القمر وقد ثبت في الهيئة أن نهار القمر يكون خمسة عشر يوماً ، وليله كذلك ، فيحصل فيه تغيير عظيم من شدة الحر إلى شدة البرد فإذا كانت مدة شدة البرد هي مدة استقباله الأرض أحدث في جو الأرض عنصر البرودة .
وقوله : { فأحيا به الأرض } معطوف على الصلة بالفاء لسرعة حياة الأرض إثر نزول الماء وكلا الأمرين الفعل والفاء موضع عبرة وموضع منة . وأطلقت الحياة على تحرك القوى النامية من الأرض وهي قوة النبات استعارة لأن الحياة حقيقة هي ظهور القوى النامية في الحيوان فشبهت الأرض به . وإذا جعلنا الحياة حقيقة في ظهور قوى النماء وجعلنا النبات يوصف بالحياة حقيقة وبالموت فقوله : { فأحيا به الأرض } مجاز عقلي والمراد إحياء ما تراد له الأرض وهو النبات .
وفي الجمع بين السماء والأرض وبين أحيا وموت طباقان .
وقوله : { وبث فيها من كل دابة } عطف إما على { أنزل } فيكون صلة ثانية وباعتبار ما عطف قبله على الصلة صلة ثالثة ، وإما عطف على { أحيا } فيكون معطوفاً ثانياً على الصلة ، وأيّاً ما كان فهو آية ومنة مستقلة ، فإن جعلته عطفاً على الصلة فمن في قوله : { من كل دابة } بيانية وهي في موضع الحال ظرف مستقر ، وإن جعلته عطفاً على المعطوف على الصلة وهو { أحيا } فمن في قوله : { من كل دابة } تبعيضية وهي ظرف لغو ، أي أكثر فيها عدداً من كل نوع من أنواع الدواب بمعنى أن كل نوع من أنواع الدواب ينبث بعض كثير من كل أنواعه ، فالتنكير في دابة للتنويع أي أكثر الله من كل الأنواع لا يختص ذلك بنوع دون آخر .
والبث في الأصل نشر ما كان خفياً ومنه بث الشكوى وبث السر أي أظهره . قالت الأعرابية « لقد أبثثتك مكتومي وأطعمتك مأدومي » وفي حديث أم زرع قالت السادسة " ولا يولج الكف ليعلم البث " أي لا يبحث عن سر زوجته لتفشوه له ، فمثلت البحث بإدخال الكف لإخراج المخبوء ، ثم استعمل البث مجازاً في انتشار الشيء بعد أن كان كامناً كما في هاته الآية واستعمل أيضاً في مطلق الانتشار ، قال الحماسي :
وهلاّ أعَدُّوني لِمِثلي تفاقدوا *** وفي الأرض مثبوتٌ شجاعٌ وعقرب
وبث الدواب على وجه عطفه على فعل { أنزل } هو خلق أنواع الدواب على الأرض فعبر عنه بالبث لتصوير ذلك الخلق العجيب المتكاثر فالمعنى وخلق فبث فيها من كل دابة .
وعلى وجه عطف { وبث } على { فأحيا } فبث الدواب انتشارها في المراعي بعد أن كانت هازلة جاثمة وانتشار نسلها بالولادة وكل ذلك انتشار وبث وصفه لبيد بقوله :
رُزقت مرابيعَ النجوم وصَابَهَا *** وَدْق الرواعدِ جَوْدُها فرِهامُها
فعلا فروعُ الأيْهقان وأطفَلَـتْ *** بالجَلْهتينِ ظِباؤها ونعامهــا
والآية أوجز من بيتي لبيد وأوفر معنى فإن قوله تعالى : { وما أنزل الله من السماء من ماء } أوجز من البيت الأول ، وقوله : { فأحيا به الأرض بعد موتها } أوجز من قوله فعلا فروع الأيهقان وأعم وأبرع بما فيه من استعارة الحياة ، وقوله : { وبث فيها من كل دابة } أوجز من قوله وأطفلت البيت مع كونه أعم لعدم اقتصاره على الظباء والنعام .
والدابة ما دب على وجه الأرض وقد أذنت كلمة { كل } بأن المراد جميع الأنواع فانتفى احتمال أن يراد من الدابة خصوص ذوات الأربع .
وقد جمع قوله تعالى : { فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة } أصول علم التاريخ الطبيعي وهو المواليد الثلاثة المعدن والنبات والحيوان ، زيادة على ما في بقية الآية سابقاً ولاحقاً من الإشارات العلمية الراجعة لعلم الهيئة وعلم الطبيعة وعلم الجغرافيا الطبيعية وعلم حوادث الجو .
وقوله : { وتصريف الرياح } عطف على مدخول { في } وهو من آيات وجود الخالق وعظيم قدرته لأن هبوب الريح وركودها آية ، واختلاف مهابِّها آية ، فلولا الصانع الحكيم الذي أودع أسرار الكائنات لما هبت الريح أو لما ركدت ، ولما اختلفت مهابُّها بل دامت من جهة واحدة وهذا موضع العبرة ، ومن تصريف الرياح أيضاً موضع نعمة وهو أن هبوبها قد يحتاج إليه أهل موضع للتنفيس من الحرارة أو لجلب الأسحبة أو لطرد حشراتٍ كالجراد ونحوه أو لجلب منافع مثل الطير .
وقد يحتاج أهل مكان إلى اختلاف مهابها لتجيء ريح باردة بعد ريح حارة أو ريح رطبة بعد ريح يابسة ، أو لتهب إلى جهة الساحل فيرجعَ أهل السفن من الأسفار أو من الصيد ، فكل هذا موضع نعمة ، وهذا هو المشاهد للناس كلهم ، ولأهل العلم في ذلك أيضاً موضع عبرة أعجب وموضع نعمة ، وذلك أن سبب تصريف الرياح أن الله أحاط الكرة الأرضية بهواء خلقه معها ، به يتنفس الحيوان وهو محيط بجميع الكرة بَحْرِها وبرها متصل بسطحها ويشغل من فوق سطحها ارتفاعاً لا يعيش الحيوان لو صعد إلى أعلاه ، وقد خلقه الله تعالى مؤلفاً من غازين هما ( النيتروجين والأكسجين ) وفيه جزء آخر عارض فيه وهو جانب من البخار المائي المتصاعد له من تبخر البُحار ورطوبة الأرض بأشعة الشمس وهذا البخار هو غاز دقيق لا يشاهد ، وهذا الهواء قابل للحرارة والبرودة بسبب مجاورة حارَ أو بارد ، وحرارته تأتي من أشعة الشمس ومن صعود حرارة الأرض حين تسخنها الشمس وبرودته تجيء من قلة حرارة الشمس ومن برودة الثلوج الصاعدة من الأرض ومن الزمهرير الذي يتزايد بارتفاع الجو كما تقدم .
ولما كانت الحرارة من طبعها أن تُمَدِّد أجزاء الأشياء فتتلطف بذلك التمدد كما تقرر في الكيمياء ، والبرودة بالعكس ، كان هواء في جهة حارة كالصحراء وهواء في جهة باردة كالمنجمد وقع اختلاف بين الهواءين في الكثافة فصَعِد الخفيف وهو الحار إلى الأعلى وانحدر الكثيف إلى الأسفل وبصعود الخفيف يترك فراغاً يخلفه فيه الكثيف طلباً للموازنة فتحدث حركة تسمى ريحاً ، فإذا كانت الحركة خفيفة لقرب التفاوت بين الهواءين سميت الحركة نسيماً وإذا اشتدت الحركة وأسرعت فهي الزوبعة . فالريح جنس لهاته الحركة والنسيم والزوبعة والزعزع أنواع له .
ومن فوائد هاته الرياح الإعانة على تكوين السحاب ونقله من موضع إلى موضع وتنقية الكرة الهوائية مما يحل بها من الجراثيم المضرة ، وهذان الأمران موضع عبرة ونعمة لأهل العلم .
وقد اختير التعبير بلفظ التصريف هنا دون نحو لفظ التبديل أو الاختلاف لأنه اللفظ الذي يصلح معناه لحكاية ما في نفس الأمر من حال الرياح لأن التصريف تفعيل من الصرف للمبالغة وقد علمت أن منشأ الريح هو صرف بعض الهواء إلى مكان وصرف غيره إلى مكانه الذي كان فيه فيجوز أن تقدر : وتصريف الله تعالى الرياح ، وجعل التصريف للريح مع أن الريح تكوَّنت بذلك التصريف لأنها تحصل مع التصريف فهو من إطلاق الاسم على الحاصل في وقت الإطلاق كما في قوله تعالى : { ويلعنهم اللاعنون } [ البقرة : 159 ] وهو ضرب من مجاز الأوْل ، وأن تجعل التصريف بمعنى التغيير أي تبديل ريح من جهة إلى جهة فتبقى الحقيقة ويفوت الإعجاز العِلمي ويكون اختيار لفظ التصريف دون التغيير لأنه أخف .
وجُمع الرياح هنا لأن التصريف اقتضى العدد لأنها كلما تغير مهبها فقد صارت ريحاً غيرَ التي سبقت .
وقرأه الجمهور ( الرياح ) بالجمع وقرأه حمزة والكسائي ( الريح ) بالإفراد على إرادة الجنس ، واستفادة العموم من اسم الجنس المعرف سواء كان مفرداً أو جمعاً سَواءٌ ، وقد قيل إن الرياح بصيغة الجمع يكثر استعماله في ريح الخير وإن الريح بالإفراد يكثر استعماله في ريح الشر واعتضدوا في ذلك بما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا رأى الريح : « اللهم اجعلها رياحاً لا ريحاً » وهي تفرقة أغلبية وإلاّ فقد غير بالإفراد في موضع الجمع ، والعكس في قراءة كثير من القراء . والحديثُ لم يَصح ، وعلى القول بالتفرقة فأحسن ما يعلل به أن الريح النافعة للناس تجيء خفيفة وتتخلل موجاتها فجَوات فلا تحصل منها مضرة فباعتبار تخلل الفجوات لهبوبها جُمعت ، وأما الريح العاصف فإنه لا يترك للناس فجوة فلذلك جعل ريحاً واحدة وهذا مأخوذ من كلام القرطبي .
والرياح جمع ريح والريح بوزن فِعْل بكسر الفاء وعينها واو انقلبت ياء لأجل الكسرة بدليل قولهم في الجمع أرواح وأما قولهم في الجمع رياح فانقلاب الواو فيه ياء كانقلابها في المفرد لسبب الكسرة كما قالوا دِيمَة ودِيَمَ وحِيلة وحِيَل وهما من الواوي .
وقوله : { والسحاب المسخر } عطف على { وتصريف الرياح } أو على { الرياح } ويكون التقدير : وتصريف السحاب المسخر أي نقله من موضع إلى موضع . وهو عبرة ومنة أما العبرة ففي تكوينه بعد أن لم يكن وتسخيره وكونِه في الفضاء ، وأما المنة ففي جميع ذلك فتكوينه منة وتسخيره من موضع إلى موضع منة وكونه بين السماء والأرض منة لأنه ينزل منه المطر على الأرض من ارتفاع فيفيد اختراق الماء في الأرض ، ولأنه لو كان على سطح الأرض لاختنق الناس فهذا ما يبدو لكل أحد ، وفي ذلك أيضاً عبرة ومنة لأهل العلم فتكوينه عبرة لهم وذلك أنه يتكون من تصاعد أبْخرة البحار ورطوبة الأرض التي تبخِّرها أشعة الشمس ولذا لم يخْلُ الهواء من بُخار الماء كما قدمناه إلاّ أن بخار الماء شفاف غازي فإذا جاور سطحاً بارداً ثقل وتكاثف فصار ضباباً أو ندى أو سحاباً ، وإنما تكاثف لأن أجزاء البخار تجتمع فتقل قدرة الهواء على حمله ، ثم إذا تكامل اجتماعه نزل مطراً ، ولكون البخار الصاعد إلى الجو أكثر بخار البحر ؛ لأن البحر أكثر سطح الكرة الأرضية كانت السحب أكثر ما تتكون من جهة البحار ، وكانوا يظنون أن المطر كله من ماء البحر وأن خراطيم السحاب تتدلى إلى أمواج البحر فتمتص منه الماء ثم ينزل مطراً . قال أبو ذؤيب الهذلي :
سقى أم عمرو كلَّ آخر ليلة *** حناتمُ سودٌ ماؤهن ثجيـج
شربن بماء البحر ثم ترفعت *** متى لجُجٍ خُضرٍ لهن نئيج
وقال البديع الإصطرلابي{[169]} :
أهْدِي لمجلسك الشريف وإنما *** أهْدِي له ما حُزتُ من نعمائه
كالبحر يُمطره السحابُ ومالَه *** فضلٌ عليه لأنه من مائــه
فلولا الرياح تسخره من موضع إلى موضع لكان المطر لا ينزل إلاّ في البحار . وموضع المنة في هذا في تكوينه حتى يحمل الماء ليحيى الأرض ، وفي تسخيره لينتقل ، وفي كونه بين السماء والأرض فهو مسخر بين السماء والأرض حتى يتكامل ما في الجو من الماء فيثقل السحاب فينزل ماء إذا لم تبق في الهواء مقدرة على حمله قال تعالى : { وينشيء السحاب الثقال } [ الرعد : 12 ] وقوله تعالى : { لأيات لقوم يعقلون } أي دلائل وقد تقدم الكلام على الآية والآيات ، وجمع الآيات لأن في كل ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما عطف عليه آيات .
فإن أريد الاستدلال بها على وجود الله تعالى فقد كانت دلائل واضحة وكان رداً على الدُّهريين من العرب وكان ذكرهم بعد الذين كفروا وماتوا وهم كفار المراد بهم المشركون تكميلاً لأهل النحل في العرب ، ويكون قوله بعد ذلك : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } [ البقرة : 165 ] رجوعاً إلى المشركين وهذا الوجه يرجع إلى الاستدلال بالعالم على الصانع وهو دليل مشهور في كتب الكلام .
وإن أريد الاستدلال بهاته الدلائل على وحدانية الله تعالى المستلزمة لوجوده وهو الظاهر من قوله : { لقوم يعقلون } ، لأن الاستدلال بهاته الدلائل وأمثالها على وجود الصانع لا يدل على كمال عقل بخلاف الاحتجاج بها على الوحدانية ، ولأنه ذكره بعد قوله : { وإلهاكم إله واحد لا إله إلا هو } ، ولأن دهماء العرب كانوا من المشركين لا من المعطلين الدهريين . وكفاية هذه الدلائل في الرد على المشركين من حيث إنهم لم يكونوا يدعون للأصنام قدرة على الخلق كما أشار إليه قوله تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] .
وإن أريد الاستدلال بهذه الآثار لوحدانية الله على الأمم التي تثبت الاشتراك للآلهة في الإيجاد مثل مجوس الفرس ومشركي اليونان . فوجه دلالة هاته الآيات على الوحدانية أن هذا النظام البديع في الأشياء المذكورة وذلك التدبير في تكوينها وتفاعلها وذهابها وعودها ومواقيتها كل ذلك دليل على أن لها صانعاً حكيماً متصفاً بتمام العلم والقدرة والحكمة وهي الصفات التي تقتضيها الأُلْهانية ، ولا جرم أن يكون الإله الموصوف بهاته الصفات واحداً لاعتراف المشركين بأن نواميس الخلق وتسيير العالم من فعل الله تعالى ، إذا لم يدعوا لشركائهم الخلق ولذلك قال تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] ، وذكر في سورة النمل الاستدلال ببعض ما هنا على أن لا إله مع الله ، فالمقصود التذكير بانتفاء حقيقة الإلهية عن شركائهم ، وأما طريقة الاستدلال العلمية فهي بالبرهان الملقب في علم الكلام ببرهان التمانع وسيأتي عند قوله : { لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] في سورة الأنبياء .
والقوم : الجماعة من الرجال ويطلق على قبيلة الرجل كما قال عمرو بن معدي كرب :
* فلو أن قومي أنقطتني رماحهم *
ويطلق على الأمة . وذكر لفظ { لقوم يعقلون } دون أن يقال للذين يعقلون أو للعاقلين لأن إجراء الوصف على لفظ قوم يومىء إلى أن ذلك الوصف سجية فيهم ، ومن مكملات قوميتهم ، فإن للقبائل والأمم خصائص تميزها وتشتهر بها كما قال تعالى : { وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } [ التوبة : 56 ] ، وقد تكرر هذا في مواضع كثيرة من القرآن ومن كلام العرب ، فالمعنى إن في ذلك آيات للذين سجيتهم العقل ، وهو تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بآيات ذلك ليست عقولهم براسخة ولا هي ملكات لهم وقد تكرر هذا في سورة يونس .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن في خلق السماوات والأرض}: وذلك أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بآية، اجعل لنا الصفا ذهبا، فقال الله سبحانه: {إن في خلق السماوات والأرض} {واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري}: السفن التي {في البحر بما ينفع الناس}: في معايشهم. {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به}: بالماء {الأرض بعد موتها} يبسها. {وبث فيها}: يعني وبسط. {من كل دابة وتصريف الرياح}: في العذاب والرحمة.
{والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}: فيما ذكر من صنعه فيوحدوه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛
فقال بعضهم: أنزلها عليه احتجاجا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان، وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ" فتلا ذلك على أصحابه، وسمع به المشركون من عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أن ذلك كذلك، ونحن ننكر ذلك، ونحن نزعم أن لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله عند ذلك: "إنّ في خَلْق السّمَوات وَالأرْض... "احتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا ما ذكرنا عنهم.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم من أجل أن أهل الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم (آيةً)، فأنزل الله هذه الآية يعلمهم فيها أن لهم في خلق السمَوات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك آية بينة على وحدانية الله، وأنه لا شريك له في ملكه لمن عقل وتدبر ذلك بفهم صحيح.
والصواب من القول في ذلك، أن الله تعالى ذكره نبه عباده على الدلالة على وحدانيته وتفرّده بالألوهية دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية. وجائز أن تكون نزلت فيما [قيل]، ولا خبر عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذر فيجوز أن يقضي أحد لأحد الفريقين بصحة قول على الآخر. وأيّ القولين كان صحيحا فالمراد من الآية ما قلت.
"إنّ فِي خَلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ": إن في إنشاء السمَوات والأرض وابتداعهما. ومعنى خلق الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها بعد أن لم تكن موجودة.
وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل «الأرض» ولم تجمع كما جمعت السموات، فأغنى ذلك عن إعادته.
فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلق هو غيرها فيقال: إن في خلق السموات والأرض؟ قيل: قد اختلف في ذلك، فقال بعض الناس: لها خلق هو غيرها، واعتلوا في ذلك بهذه الآية، وبالتي في سورة الكهف: "مَا أشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أنْفُسِهِمْ" وقالوا: لم يخلق الله شيئا إلا والله له مريد. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله، والإرادة خلقٌ لها.
وقال آخرون: خلق الشيء صفة له، لا هي هو ولا غيره. قالوا: لو كان غيره لوجب أن يكون مثله موصوفا. قالوا: ولو جاز أن يكون خلقه غيره وأن يكون موصوفا لوجب أن تكون له صفة هي له خلق، ولو وجب ذلك كذلك لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلوما بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السمَوات والأرض صفة لهما على ما وصفنا. واعتلوا أيضا بأن للشيء خلقا ليس هو به من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأوّلون.
وقال آخرون: خلق السمَوات والأرض وخلق كل مخلوق، هو ذلك الشيء بعينه لا غيره.
فمعنى قوله: "إنّ فِي خَلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ": إن في السموات والأرض.
"وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ": وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس. وإنما الاختلاف في هذا الموضع الافتعال من خُلوف كل واحد منهما الآخر، كما قال تعالى ذكره: "وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيْلَ وَالنّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ أوْ أرَادَ شُكُورا" بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مكان صاحبه، إذا ذهب الليل جاء النهار بعده، وإذا ذهب النهار جاء الليل خلفه ومن ذلك قيل: خلف فلان فلانا في أهله بسوء.
وأما الليل: فإنه جمع ليلة. وأما النهار فإن العرب لا تكاد تجمعه لأنه بمنزلة الضوء.
"وَالفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ": إن في الفلك التي تجري في البحر. والفلك هو السفن، واحده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: "وآيَةٌ لَهُمْ أنّا حَمَلْنَا ذُرّيّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُون فذكره"، وقد قال في هذه الآية: "وَالفُلْكِ الّتي تَجْرِي فِي البَحْرِ" وهي مُجراة، لأنها إذا أجريت فهي الجارية، فأضيف إليها من الصفة ما هو لها.
"بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ": ينفع الناس في البحر.
"وَما أنْزَلَ الّلهُ مِنَ السماءِ مِنْ ماءٍ فأحيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتها": وفيما أنزله الله من السماء من ماء، وهو المطر الذي ينزله الله من السماء.
"فَأحيْا بِهِ الأرْضَ بَعَدْ مَوْتِها": وإحياؤها: عمارتها وإخراج نباتها، والهاء التي في «به» عائدة على الماء، والهاء والألف في قوله: "بَعْدَ مَوْتها" على الأرض، وموت الأرض: خرابها ودثور عمارتها، وانقطاع نباتها الذي هو للعباد أقوات وللأنام أرزاق.
"وَبَثّ فِيها مِنْ كُلّ دابّة": وإن فيما بثّ في الأرض من دابة. ومعنى قوله: "وبَثّ فِيها": وفرّق فيها. والهاء والألف في قوله: «فِيها» عائدتان على الأرض. والدابة: الفاعلة من قول القائل دبت الدابة تدبّ دبيبا فهي دابة، والدابة اسم لكل ذي روح كان غير طائر بجناحيه لدبيبه على الأرض.
"وَتَصرِيف الرّياحِ": وفي تصريفه الرياح...وتصريف الله إياها: أن يرسلها مرة لواقح، ومرة يجعلها عقيما، ويبعثها عذابا تدمر كل شيء بأمر ربها. وزعم بعض أهل العربية أن معنى قوله: "وَتَصْرِيفِ الرّياحِ": أنها تأتي مرّة جنوبا وشمالاً وقَبُولاً ودَبُورا ثم قال: وذلك تصريفها. وهذه الصفة التي وصف الرياح بها صفة تصرّفها لا صفة تصريفها، لأن تصريفها تصريف الله لها، وتصرّفها اختلاف هبوبها. وقد يجوز أن يكون معنى قوله: "وَتَصَرْيفِ الرّياحِ": تصريف الله تعالى ذكره هبوب الرياح باختلاف مهابّها.
"وَالسّحابِ المُسّخّرِ وَبَيْنَ السّماءِ والأْرضِ لآيات لِقَوْمٍ يْعَقِلُونَ": وفي السحاب جمع سحابة... وإنما قيل للسحاب سحاب -إن شاء الله- لجرّ بعضه بعضا وسحبه إياه... فأما معنى قوله: "لآيات":فإنه علامات ودلالات على أن خالق ذلك كله ومنشئه إله واحد. "لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" لمن عقل مواضع الحجج وفهم عن الله أدلته على وحدانيته.
فأعلم تعالى ذكره عباده بأن الأدلة والحجج إنما وضعت معتبرا لذوي العقول والتمييز دون غيرهم من الخلق، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي، والمكلفين بالطاعة والعبادة، ولهم الثواب وعليهم العقاب.
فإن قال قائل: وكيف احتجّ على أهل الكفر بقوله: "إنّ فِي خَلْق السّمَوَات والأرْضِ وَاخْتِلاف اللّيْلِ وَالنّهاِر..." في توحيد الله، وقد علمت أن أصنافا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقة؟.
قيل: إن إنكار من أنكر ذلك غير دافع أن يكون جميع ما ذكر تعالى ذكره في هذه الآية دليلاً على خالقه وصانعه، وأن له مدبرا لا يشبهه شيء، وبارئا لا مثل له. وذلك وإن كان كذلك، فإن الله إنما حاجّ بذلك قوما كانوا مقرّين بأن الله خالقهم، غير أنهم يشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان فحاجّهم تعالى ذكره فقال إذ أنكروا قوله: "وَإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ" وزعموا أن له شركاء من الاَلهة: إن إلهكم الذي خلق السموات، وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما، وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر، وذلك هو معنى قوله: "وَالفُلْكِ الّتِي تَجْرِي في البَحْر بمَا يَنْفَعُ النّاسَ" وأنزل إليكم الغيث من السماء، فأخصب به جَنَابكم بعد جدوبه، وأمرعه بعد دثوره، فنَعَشكم به بعد قنوطكم، وذلك هو معنى قوله: "وَما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِنْ ماءٍ فأحيْا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتها". وسخر لكم الأنعام فيها لكم مطاعم ومآكل، ومنها جمال ومراكب، ومنها أثاث وملابس، وذلك هو معنى قوله: "وَبَثّ فِيها مِنْ كُلّ دابّةٍ". وأرسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسير لكم السحاب الذي بوَدْقه حياتكم وحياة نَعَمكم ومواشيكم وذلك هو معنى قوله: "وَتَصْرِيفِ الرّياحِ وَالسّحابِ المُسَخّر بَيْنَ السّماءِ والأرْضِ".
فأخبرهم أن إلههم هو الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم، وتفرّد لهم بها. ثم قال: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ فتشركوه في عبادتكم إياي، وتجعلوه لي ندّا وعِدلاً؟ فإن لم يكن من شركائكم من يفعل ذلكم من شيء، ففي الذي عددت عليكم من نعمتي وتفرّدت لكم بأياديّ دلالات لكم إن كنتم تعقلون مواقع الحق والباطل والجور والإنصاف، وذلك أني لكم بالإحسان إليكم متفرّد دون غيري، وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادا. فهذا هو معنى الآية.
والذين ذُكّروا بهذه الآية واحتجّ عليهم بها هم القوم الذين وصفت صفتهم دون المعطلة والدهرية، وإن كان في أصغر ما عدّ الله في هذه الآية من الحجج البالغة، المُقْنَعُ لجميع الأنام، تركنا البيان عنه كراهة إطالة الكتاب بذكره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار). خلق السماوات، وجعل فيها منافع، للخلق، ثم جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بعد ما بينهما، إذ لا منفعة للخلق في منافع إحداهما إلا باتصال منافع الأخرى بها من نحو ما جعل من معرفة الطرق في الأرض بالكواكب وإنضاج الأعناب والثمار وينعها بالشمس والقمر، وجعل إحياء الأرض وإخراج ما فيها من النبات من المأكول والمشروب والملبوس بالأمطار، فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر وتعلقها به على أن منشئها واحد لأنه لو كان من اثنين لكان إذا قطع هذا وصل الآخر، وإذ وصل هذا قطع الآخر، فإذا لم يكن، ولكنه اتصل، دل أنه فعل واحد، فهو ينقض على الثنوية والزنادقة قولهم، وكذلك يدل اختلاف الليل والنهار على أن خالقهما واحد، لأنه لو كان من اثنين لكان إذا أتى هذا بالليل منع الآخر بالنهار، وإذا أتى أحدهما بالنهار منع الآخر بالليل، وفيه ذهاب عيش الخلق، وفي ذهابه تفانيهم وفسادهم، فدل أنه واحد...
والثاني: أنه جعل للخلق في الليل والنهار منافع، وجعل بعضها متصلة ببعض متعلقة مع تضادهما كقوله: (ومن رحمته، جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) [القصص: 73] فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر مع اختلافهما وتضادهما أن محدثهما واحد.
والثالث: فيه دلالة حدث العالم لما ذكرنا من تغييرها وزوالها من حال إلى حال، فدل تغيرها وزوالها على أنها حدث، ودل أن جهل هذه الأشياء بابتدائها وعجزها على قدرة مثلها على أن لهما [محدثا، وأن] كل واحد منهما؛ أعني الليل والنهار، يصير بمجيء الآخر مغلوبا، فلو أن كان ثم لغير فيه تدبير، لما احتمل أن يصير مغلوبا بعد ما كان غالبا، فدل أن لهما محدثا، وأنه واحد.
[والرابع: فيه] دلالة البعث والحياة بعد الموت لأن الليل يأتي على النهار فيتلفه، ويذهب به حتى لا يبقى من أثر [النهار شيء، وكذلك النهار يأتي على الليل فيتلفه حتى لا يبقى من] الليل شيء، ثم وجد بعد ذلك كل واحد منهما على ما وجد في البداء من غير نقصان ولا تفاوت؛ فدل أنه قادر على إنشاء ما أماته، وأتلفه، وإن لم يبق له أثر على ما قدر من إيجاد ما أتلف وإنشاء ما أذهب من الليل بالنهار ومن النهار بالليل، وإن لم يبق له أثر.
{واختلاف الليل والنهار}؛ قيل: اختلافهما لما جعل أحدهما مظلما والآخر مضيئا، وقيل: اختلافهما لنقصانهما وزيادتهما، إذ ما ينتقص من أحدهما يزداد في الآخر، فدل انتقاصهما وزيادتهما على أن منشئهما واحد؛ لأنه لو كان من اثنين لمنع كل واحد منهما صاحبه من الزيادة والنقصان، وبالله التوفيق، ولتغير التدبير، ولا يجري كل عام الأمر فيه على ما جرى عليه في العام الأول.
{والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس}؛ ... ثم فيه أعجوبة؛ وهي أن الطباع تنفر من معافجة البحر بالاطلاع على أمواجه وأهواله، وأراهم من عظم آياته ما يجريه في البحر على الحفظ والأمر الواقع لهم، فدل أنه من عند قادر لطيف خبير. وفيه أيضا دلالة وحدانيته؛ وذلك أن أهل البر لهم الانتفاع بأهل البحر، ولأهل البحر الانتفاع بأهل البر على بعد ما بينهما وتضادهما، فدل أن محدثهما واحد. ثم فيه دلالة إباحة التجارات مع الخطرات على احتمال المشقات وتحمل المؤونات. وفي ذلك دلالة النبوة لأن يعلم أن اتخاذ السفن وما فيه من المنافع لا يقوم له تدبير البشر؛ ثبت أنه علم ذلك بمن علم جواهر الأشياء، وما يصلح الأشياء وما لا يصلح، وفي الحاجة إلى ذلك إيجاب القول بالرسالة للبشر.
وقوله: {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض} فيه دلالة فضل العلوي على السفلي لأن ما ينزل من السماء من الماء ينزل عذبا، وما يخرج من الأرض يخرج مختلفا، منه ما هو عذب، ومنه ما هو أجاج، وما هو مر، فدل دلالة فضل العلوي على السفلي.
وقوله: {فأحيا به الأرض بعد موتها}... فيه دلالة البعث...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {تصريف الرياح} إرسالها عقيماً وملقحة وصراً ونصراً وهلاكاً، ومنه إرسالها جنوباً وشمالاً وغير ذلك، و {الرياح} جمع ريح، وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله تعالى {وجرين بهم بريح طيبة} [يونس: 22]، وهذا أغلب وقوعها في الكلام...
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أنه لا بد من الاستدلال على وجود الصانع بالدلائل العقلية وأن التقليد ليس طريقا البتة إلى تحصيل هذا الغرض...
وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر في الأزمنة، فهما يختلفان بالأمكنة، فإن عند من يقول: الأرض كرة فكل ساعة عينتها فتلك الساعة في موضع من الأرض صبح، وفي موضع آخر ظهر، وفي موضع ثالث عصر، وفي رابع مغرب، وفي خامس عشاء وهلم جرا هذا إذا اعتبرنا البلاد المخالفة في الأطوال، أما البلاد المختلفة بالعرض، فكل بلد تكون عرضه الشمالي أكثر كانت أيامه الصيفية أطول ولياليه الصيفية أقصر وأيامه الشتوية بالضد من ذلك فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلدان وعرضها أمر مختلف عجيب...
أما قوله: {فأحيا به الأرض بعد موتها} فاعلم أن هذه الحياة من جهات.
(أحدها): ظهور النبات الذي هو الكلأ والعشب وما شاكلهما، مما لولاه لما عاشت دواب الأرض.
(وثانيها): أنه لولاه لما حصلت الأقوات للعباد.
(وثالثها): أنه تعالى ينبت كل شيء بقدر الحاجة، لأنه تعالى ضمن أرزاق الحيوانات، بقوله: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}
(ورابعها): أنه يوجد فيه من الألوان والطعوم والروائح وما يصلح للملابس، لأن ذلك كله مما لا يقدر عليه إلا الله.
(وخامسها): يحصل للأرض بسبب النبات حسن ونضرة ورواء ورونق فذلك هو الحياة.
واعلم أن وصفه تعالى ذلك بالإحياء بعد الموت مجاز، لأن الحياة لا تصح إلا على من يدرك ويصح أن يعلم، وكذلك الموت، إلا أن الجسم إذا صار حيا حصل فيه أنواع من الحسن والنضرة والبهاء، والنشور والنماء، فأطلق لفظ الحياة على حصول هذه الأشياء، وهذا من فصيح الكلام الذي على اختصاره يجمع المعاني الكثيرة
واعلم أن النعم على قسمين نعم دنيوية ونعم دينية، وهذه الأمور الثمانية التي عدها الله تعالى نعم دنيوية في الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها واستدل بها على معرفة الصانع صارت نعما دينية لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن فلذلك قال: {لآيات لقوم يعقلون}.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر، حيث بدأ أولاً باختراع السموات والأرض، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي، ثم أتى ثالثاً بذكر ما نشأ عن العالم السفلي، ثم أتى بالمشترك. ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به، وهو التصريف المشروح.
وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين: قسم مدرك بالبصائر، وقسم مدرك بالأبصار. فخلق السموات والأرض مدرك بالعقول، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار. والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود، مستدل عليه بالعقول، فلذلك قال تعالى: {لآيات لقوم يعقلون}، ولم يقل: لآيات لقوم يبصرون، تغليباً لحكم العقل، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: ولما كان من سنة الله أن من دعاه إليه وإلى رسله بشاهد خرق عادة في خلق أو أمر عاجله بالعقوبة في الدنيا وجدد بعده أمة أخرى كما قال سبحانه وتعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} [الإسراء: 59] وكانت هذه الأمة خاتمة ليس بعدها أمة غيرها أعفاها ربها من احتياجها إلى خرق العوائد، قال عليه الصلاة والسلام "ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله أمن عليه البشر، وإنما كان الذي آتاني الله وحياً أوحاه الله سبحانه وتعالى إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً "فكان أمر الاعتبار أعم إجابة وأسمح مخالفة وكفاها بما قد أظهره لها في خلقه بالإبداء والتسخير من الشواهد، ليكونوا علماء منقادين لروح العلم لا لسلطان القهر، فيكون ذلك من مزاياهم على غيرهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة، آيات أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ولكنها {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل، ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره، ففي {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} في ارتفاعها واتساعها، وإحكامها، وإتقانها، وما جعل الله فيها من الشمس والقمر، والنجوم، وتنظيمها لمصالح العباد.
وفي خلق {الْأَرْضِ} مهادا للخلق، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها، والاعتبار. ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها، وحكمته التي بها أتقنها، وأحسنها ونظمها، وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع، من منافع الخلق ومصالحهم، وضروراتهم وحاجاتهم. وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله، واستحقاقه أن يفرد بالعبادة، لانفراده بالخلق والتدبير، والقيام بشئون عباده {و} في {اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وهو تعاقبهما على الدوام، إذا ذهب أحدهما، خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر، والبرد، والتوسط، وفي الطول، والقصر، والتوسط، وما ينشأ عن ذلك من الفصول، التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم، وجميع ما على وجه الأرض، من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير، وتسخير، تنبهر له العقول، وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول، ما يدل ذلك على قدرة مصرفها، وعلمه وحكمته، ورحمته الواسعة، ولطفه الشامل، وتصريفه وتدبيره، الذي تفرد به، وعظمته، وعظمة ملكه وسلطانه، مما يوجب أن يؤله ويعبد، ويفرد بالمحبة والتعظيم، والخوف والرجاء، وبذل الجهد في محابه ومراضيه.
{و} في {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} وهي السفن والمراكب ونحوها، مما ألهم الله عباده صنعتها، وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها.
ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح، التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال، والبضائع التي هي من منافع الناس، وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم.
فمن الذي ألهمهم صنعتها، وأقدرهم عليها، وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر، تجري فيه بإذنه وتسخيره، والرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية، النار والمعادن المعينة على حملها، وحمل ما فيها من الأموال؟ فهل هذه الأمور، حصلت اتفاقا، أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز، الذي خرج من بطن أمه، لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه القدرة، وعلمه ما يشاء تعليمه، أم المسخر لذلك رب واحد، حكيم عليم، لا يعجزه شيء، ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته، واستكانت لعظمته، وخضعت لجبروته.
وغاية العبد الضعيف، أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب، التي بها وجدت هذه الأمور العظام، فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه، وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له، والخوف والرجاء، وجميع الطاعة، والذل والتعظيم.
{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} وهو المطر النازل من السحاب.
{فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فأظهرت من أنواع الأقوات، وأصناف النبات، ما هو من ضرورات الخلائق، التي لا يعيشون بدونها.
أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله، وأخرج به ما أخرج ورحمته، ولطفه بعباده، وقيامه بمصالحهم، وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ {وَبَثَّ فِيهَا} أي: في الأرض {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة، ما هو دليل على قدرته وعظمته، ووحدانيته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس، ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع.
فمنها: ما يأكلون من لحمه، ويشربون من دره، ومنها: ما يركبون، ومنها: ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم، ومنها: ما يعتبر به، ومع 429 أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم، المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها.
وفي {تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} باردة وحارة، وجنوبا وشمالا، وشرقا ودبورا وبين ذلك، وتارة تثير السحاب، وتارة تؤلف بينه، وتارة تلقحه، وتارة تدره، وتارة تمزقه وتزيل ضرره، وتارة تكون رحمة، وتارة ترسل بالعذاب.
فمن الذي صرفها هذا التصريف، وأودع فيها من منافع العباد، ما لا يستغنون عنه؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات، وتصلح الأبدان والأشجار، والحبوب والنوابت، إلا العزيز الحكيم الرحيم، اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع، ومحبة وإنابة وعبادة؟.
وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير، فيسوقه الله إلى حيث شاء، فيحيي به البلاد والعباد، ويروي التلول والوهاد، وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه، فإذا كان يضرهم كثرته، أمسكه عنهم، فينزله رحمة ولطفا، ويصرفه عناية وعطفا، فما أعظم سلطانه، وأغزر إحسانه، وألطف امتنانه "
أليس من القبيح بالعباد، أن يتمتعوا برزقه، ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره، وعفوه وصفحه، وعميم لطفه؟
فله الحمد أولا وآخرا، وباطنا وظاهرا.
والحاصل، أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات، وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات، وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة، علم بذلك، أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب دلالات، على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته، وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر، وأنها مسخرات، ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها.
فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون، وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا الله، ولا رب سواه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن في ذلك (لآيات لقوم يعقلون).. نعم لو ألقى الإنسان عن عقله بلادة الألفة والغفلة، فاستقبل مشاهد الكون بحس متجدد، ونظرة مستطلعة، وقلب نوره الإيمان. ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة. تلفت عينه كل ومضة، وتلفت سمعه كل نأمة، وتلفت حسه كل حركة، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي ما تني تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر.. إن هذا هو ما يصنعه الإيمان. هذا التفتح. هذه الحساسية. هذا التقدير للجمال والتناسق والكمال. إن الإيمان رؤية جديدة للكون، وإدراك جديد للجمال، وحياة على الأرض في مهرجان من صنع الله، آناء الليل وأطراف النهار...
ويختم الحق الآية بقوله: (لآيات لقوم يعقلون) أي أنها عجائب لقوم يعقلون. وحين يقول الحق: (لقوم يعقلون) فكأنه ينبه الملكة المفكرة العاقلة في الإنسان. وحين يخاطبك مخاطب؛ وينبه فيك الملكة العاقلة؛ فأعلم أن ما يخبر به ينتهي عقلك إليه بمجرد أن تفكر، وإلا لو لم يكن الأمر كذلك؛ ما كانت هناك ضرورة أن يذكر لك كلمة العقل...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا نجد أنَّ في هذه الظواهر الكونية "لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ "من خلال ما يدركه العقل من دلالتها على اللّه، فكأنّ الآية تريد أن تقول لنا: إنَّ بإمكانكم اكتشاف اللّه في ما تشاهدونه من آياته التي لو فكرتم بها بما أوتيتم من عقل لوصلتم إلى النتيجة الحاسمة وهي الإيمان باللّه. إنَّ التفكير باللّه والوصول إليه لا يكلّفكم جهداً في السفر والتنقيب في الأرض أو النزول إلى أعماق البحار، أو الصعود إلى آفاق الفضاء؛ بل يكفيكم التعامل مع حياتكم اليومية، لتفكروا في ما يمر أو يحيط بكم، لتكتشفوا اللّه الذي يطلُّ عليكم من خلال ذلك، بحكمته ورحمته وعظمته، حيث يقودكم الفكر العميق إلى أنَّ الصدفة لا يمكن أن تصنع نظاماً، وأنَّ القوّة العمياء الجامدة لا يمكن أن تخلق عقلاً ورؤية وامتداداً، وأنَّ الموت الراقد في أعماق العدم لا يفجر الحياة، بل لا بُدَّ من العقل المنظّم القادر الحكيم الذي يبعث ذلك كلّه في قدرته التي لا يعجزها شيء مهما كان عظيماً...
الأسلوب التربوي للدعوة في الآية:
إننا نستطيع أن نأخذ من الآية أسلوباً عملياً في التربية، خلاصته أن ينطلق الدعاة إلى اللّه في دعوة النّاس إلى التفكير من خلال حياتهم العامة في كلّ تفاصيلها اليومية، لجعلهم يفكرون به في كلّ نعمةٍ يعيشونها، أو ظاهرة يشاهدونها، أو قانونٍ طبيعي أو حياتي يلمسونه في حياتهم، فذلك هو السبيل الأمثل للوصول إلى قناعاتهم الفكرية والروحية بواقعية وعمق وصفاء، بعيداً عن كلّ الحذلقات الفلسفية المعقّدة، لأنَّ الإنسان يحبّ أن يتعامل مع الأشياء الحسية التي تحيط به أو تكون قريبةً من حياته.
ولعل قيمة هذا الأسلوب تتمثّل في فكرتين:
الأولى: أننا نربط وجود اللّه بكلّ ما يحيط بنا، فيكون كلّ شيء في الكون دليلاً على وجوده.
الثانية: أننا لا نشعر بابتعاد اللّه عنا، فنحسّ بالجوّ الحميم الذي يغمرنا بروح اللّه، والسرّ في ذلك أنك عندما تريد إثبات وجود اللّه من خلال أشياء بعيدة عن حسّ الإنسان ووعيه وحياته، فكأنك توحي له بأنَّ اللّه حقيقة لا تدرك، ولا يمكن أن تقترب من حياته، ككلّ شيء عظيم عميق مقدّس يحوطه الغموض من كلّ جوانبه، فلا تشعر به إلاَّ كما تشعر بالأشياء البعيدة في الأفق الغارق في الضباب... أمّا إذا ربطته بالفكرة من خلال حياته اليومية، فإنه سيشعر بوجوده معه في كلّ التفاصيل التي تمر به...
وبهذا، لا تقتصر النتائج على حصول الإيمان باللّه كعقيدةٍ تعيش في الوجدان، بل هناك الشعور بحضور اللّه في حياته، وهذا ما يهدف إليه الإسلام في ما نعتقد؛ أن لا يبقى وجود اللّه مجرّد فكرة كامنة في وعي الإنسان، أو إيمان ساذج مستقر في قلبه، بل يتحوّل إلى فكرة في العقل، وإحساس في المشاعر، وحضور قوي مهيمن في الحياة والوجدان...