قوله تعالى : { اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } : " الليل " قيل : هو اسمُ جنسٍ فيفرِّقُ بين واحدِه وجمعِه تاءُ التأنيث فيقال : ليلة وليل كتمرة وتمر ، والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحْفَظ له جمعٌ ، ولذلك خَطَّأ الناسُ مَنْ زَعَم أنَّ اللياليَ جَمْعَ ليل ، بل الليالي جمع لَيْلة ، وهو جمعٌ غريب ، ولذلك قالوا : هو جَمْع ليلاة تقديراً وقد صُرِّح بهذا المفردِ في قَوْل الشاعر :
ويَدُلُّ على ذلك تصغيرُهم لها على لُيَيْلَة ونظير ليلة وليال كَيْكة وكَيَاك كأنهم تَوهَّموا أنها كَيْكات في الأصل ، والكيكة : البيضة . وأمّا النهار فقال الراغب : " هو في الشرعِ لِما بينَ طلوعِ الفجر إلى غروبِ الشمس " ، وظاهرُ اللغة أنه من وقت الإِسفار ، وقال ثعلب والنضر بن شميل : " هو من طُلوع الشمس " زاد النضر " ولا يُعَدُّ من قبل ذلك من النهار " . وقال الزجاجِ : " أولُ النهار دُرورُ الشمسِ " ويُجْمع على نُهُر وأَنْهِرَة نحو قَذَال وقُذُل وأَقْذِلة ، وقيل : " لا يُجْمع لأنه بمنزلة المصدر ، والصحيحُ جَمْعُه على ما تقدَّم قال :
لولا الثَّريدان لَمُتْنا بالضُّمُرْ *** ثريدُ ليلٍ وثريدٌ بالنُّهُرْ
وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة وأنها تَدُلُّ على الاتساع ، ومنه : " النهار " لاتساعِ ضوئِه عند قوله { مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ البقرة : 25 ] .
والاختلافُ مصدرٌ مضاف لفاعِله ، المرادُ باختلافهما أنَّ كلَّ واحد يَخْلُف ، ومنه : { جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] ، وقال زهير :
بِها العِيْنُ والآرامُ يَمْشِيْنَ خِلْفَةً *** وأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كلِّ مَجْثَمِ
ولها بالماطِرُون إذا *** أَكَلَ النملُ الذي جَمَعا
خِلْفَةٌ حتى إذا ارتَبَعَتْ *** سَكَنَتْ من جِلَّقٍ بِيَعَا
وقَدَّم الليلَ على النهار لأنَّه سابقهُ ، قال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } [ يس : 37 ] وهذا أصحُّ القولين ، وقيل : النورُ سابِقُ الظلمةِ وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ : وهي أن الليلةَ هل هي تابعةٌ لليومِ قبلَها أو لليومِ بعدَها ؟ فعلى القولِ الصحيح تكونُ الليلةُ لليوم بعدها ، فيكونُ اليومُ تابعاً لها . وعلى القولِ الثاني تكونُ لليومِ قبلَها فتكونُ الليلةُ تابعةً له ، فيومُ عرفَةَ على القولِ الأولِ مستثنىً من الأصل فإنه تابعٌ لليلةِ بعدَه ، وعلى الثاني جاءَ على الأصل .
قوله : { وَالْفُلْكِ } عطفٌ على " خَلْقِ " المجرورِ ب " في " لا على " السماواتِ " المجرورةِ بالإِضافة ، والفُلْك [ يكون واحداً كقولِه : { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ الشعراء : 119 ] وجمعاً ] كقوله : { فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }
[ يونس : 22 ] فإذا أُريد به ، الجَمعُ ففيه أقوالٌ ، أحدُها : قولُ سيبويهِ - وهو الصحيحُ - " أنه جمعُ تكسير " فإنْ قيل : جمعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تغيُّرٍ ما ، فالجوابُ أنَّ تغييره مقدَّرٌ ، فالضمةُ في حالِ كونه جمعاً كالضمةِ في " حُمُر " و " نُدُب " وفي حالِ كونهِ مفرداً كالضمة في قُفْل .
وإنَّما حَمَل سيبويهِ على هذا ، ولم يَجْعَلْه مشتركاً بين الواحدِ والجمع نحو : " جُنُب " و " شُلُل " أنَّهم لو قَصَدوا الاشتراكَ لم يُثَنُّوه كما لا يُثَنُّون جُنُباً وشُلُلاً فلما ثَنَّوه وقالوا : " فُلْكان " عَلِمْنا أنهم لم يَقْصِدوا الاشتراكَ الذي قصدوه في جُنُب وشُلُل ونظيرُه : ناقةٌ هِجان ونوقٌ هِجان ، ودِرْع دِلاص ودُروع دِلاص ، فالكسَرةُ في المفردِ كالكسرة في كتاب ، وفي الجمعِ كالكسرة في رجال ، لأنهم قالوا في التثنيةِ هِجانان ودِلاصان .
الثاني : مذهبُ الأخفش أنَّه اسمُ جمعٍ كصَحْب ورَكْب . الثالث : أنه جَمْع فَلَك بفتحتين كأَسَد وأُسْد ، واختار الشيخ أنه مشترك بين الواحدِ والجمعِ ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنيةِ ، ولم يَذْكُر لاختيارِه وجهاً .
وإذا أُفْرِدَ " فُلْك " فهو مذكرٌ قال تعالى : { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } قالوا : - ومنهم أبو البقاء - : ويجوزُ تأنيثُه مستدلِّين بقوله : { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي } فوصَفَه بصفةِ التأنيثِ ، ولا دليلَ في ذلك لاحتمالِ أنْ يُرادَ به الجمعُ ، وحينئذٍ فيوصفُ بما تُوصَفُ به المؤنثةُ الواحدةُ . وأصلُه : من الدوران ومنه : " فَلَك السماء " لدورَانِ النجومِ فيه ، وفَلْكَةُ المِغْزَل ، وفَلَكَتِ الجاريةُ استدارُ نَهْدُها . وجاءَ بصلةِ " التي " فعلاً مضارعاً ليدلَّ على التجدُّدُ والحدوثِ ، وإسنادُ الجري إليها مَجازٌ ، وقوله " في البحر " توكيدٌ ، إذ معلومٌ أنها لا تجري في غيرِه ، فهو كقولِه : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
قوله : " بما يَنْفَعُ " في " ما " قولان " أحدُهما : أنَّها موصولةٌ اسميةٌ ، وعلى هذا الباءُ للحال أي : تَجْري مصحوبةً بالأعيانِ التي تَنْفَعُ الناسَ . الثاني : أنها حرفيةٌ ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسببِ أي : تَجْري بسببِ نَفْع الناسِ في التجارةِ وغيرِها .
قوله : { مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ } : مِنْ الأولى معناها ابتداءُ الغايةِ أي : أَنْزَلَ من جهةِ السماءِ ، وأمّا الثانيةُ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدَها : أَنْ تكونَ لبيانِ الجنس فإنّ المُنَزَّلَ من السماء ماءٌ وغيرُه . والثاني : أن تكونَ للتبعيضِ فإنّ المنزَّل منه بعضٌ لا كلٌّ . والثالثُ : أن تكونَ هي وما بعدها بدلاً مِنْ قولِه : " من السماء " بدلَ اشتمال بتكريرِ العاملِ ، وكلاهما أعني - مِنْ الأولى ومِنْ الثانية - متعلقان بأَنْزَلَ .
فإنْ قيل : كيف تَعَلَّق حرفان متَّحدان بعاملٍ واحد ؟ فالجوابُ أنَّ الممنوعَ من ذلك أن يتَّحِدا معنىً من غير عطفٍ ولا بدلٍ ، لا تقول : أخذت من الدراهم من الدنانير . وأمَّا الآيةُ فإن المحذورَ فيها مُنْتَفٍ ، وذلك أنك إنْ جَعَلْتَ " مِنْ " الثانية " للبيانِ أو للتبعيض فظاهرٌ لاختلافِ معناهما فإن الأولى للابتداءِ ، وإنْ جعلتها لابتداءِ الغايةِ فهي وما بعدها بدلٌ ، والبدلُ يجوزُ ذلك [ فيه ] كما تقدَّم . ويجوز أَنْ تتعلَّقَ " مِنْ " الأولى بمحذوفٍ على أنها حال : إمّا من الموصولِ نفسِه وهو " ما " أو من ضميره المنصوبِ بأنزل أي : وما أنزله الله حالَ كونِه كائناً من السماء .
قوله : { فَأَحْيَا بِهِ } عَطَفَ " أحيا " على " أنزل " الذي هو صلةٌ بفاء التعقيبِ دلالةً على سرعة النبات . و " به " متعلق " بأحيا ، والباء يَجوز أن تكونَ للسبب وأن تكونَ باء الآلة ، وكلُّ هذا مجازٌ ، فإنه متعالٍ عن ذلك ، والضميرُ في " به " يعودُ على الموصول . /
قوله : { وَبَثَّ فِيهَا } يجوزُ في " بَثَّ " وجهان ، أظهرُهما : أنه عطفٌ على " أنزل " داخلٌ تحت حكمِ الصلةِ ؛ لأنَّ قولَه " فَأَحْيا " عطفٌ على " أنزل " فاتصل به وصارا جميعاً كالشيءِ الواحد ، وكأنه قيل : " وما أنزل في الأرض من ماءٍ وبَثَّ فيها من كلِّ دابة لأنهم يَنْمُون بالخِصْبِ ويَعيشون بالحَيا . هذا نصُّ الزمخشري . والثاني : أنه عطفٌ على " أحيا " .
واستشكل الشيخُ عطفَه عليها ، لأنَّها صلةٌ للموصول فلا بُدَّ من ضميرٍ يَرْجِعُ من هذه الجملةِ وليسَ ثَمَّ ضميرٌ في اللفظِ لأنَّ " فيها " يعودُ على الأرض ، فبقي أن يكونَ محذوفاً تقديرُه : وبث به فيها ، ولكن لا يجوزُ حذفُ الضمير المجرورِ بحرفِ إلاَّ بشروطٍ : أن يكونَ الموصولُ مجروراً بمثلِ ذلك الحرفِ ، وأن يتَّحدَ متعلَّقهُما ، وأَنْ لا يُحْصَرَ الضميرُ ، وأَنْ يتعيَّنَ للربطِ ، وألاَّ يكونَ الجارَّ قائماً مقامَ مرفوعٍ ، والموصولُ هنا غيرُ مجرورٍ البتةَ ، ولمَّا استشكل هذا بما ذَكَرَ خَرَّج الآية على حَذْفِ موصولٍ اسمي ، قال : " وهو جائز شائع في كلامهم ، وإنْ كان البصريون لا يُجيزونه ، وأنشدَ شاهداً عليه :
ما الذي دأبُه احتياطَ وحَزْمٌ *** وهواه أطاع يَسْتويانِ
أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكم *** ويمدَحُه ويَنْصُره سَواءُ
فواللهِ ما نِلْتُمْ وما نِيلَ منكمُ *** بمعتدلٍ وَفْقٍ ولا متقاربِ
أي : ما الذي نلتم ؛ وقوله تعالى : { وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [ العنكبوت : 46 ] أي : وبالذي أُنزل إليكم ؛ ليطابقَ قولَه : { وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنَزلَ مِن قَبْلُ } [ النساء : 136 ] . ثم قال الشيخ : " وقد يتمشَّى التقديرُ الأولُ " - يعني جوازَ الحَذْفِ وإن لم يوجد شرطُه - قال : " وقد جاءَ ذلك في أشعارِهم ؛ وأَنْشَدَ :
وإنَّ لساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها *** وهُوَّ على مَنْ صَبَّه اللهُ عَلْقَمُ
لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أَنْ يَرُدَّني *** إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قِادرُه
قوله : { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } يجوز في " كل " ثلاثةُ أوجهٍ ؛ أحدها : أن يكونَ في موضعِ المفعولِ به لبثَّ ؛ وتكونُ " مِنْ " تبعيضيةً . الثاني : أن تكون " مِنْ " زائدةً على مذهب الأخفش ، و " كلَّ دابة " مفعول به .
ل " بَثَّ " أيضاً والثالث : أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من مفعولِ " بَثَّ " المحذوفِ إذا قلنا إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً تقديرُه : وما بثُّ حالَ كونِه كائناً من كلِّ دابة ؛ وفي " مِنْ " حينئذ وجهان ؛ أحدهما : أن تكونَ للبيان . والثاني : أن تكونَ للتبعيض .
وقال أبو البقاء : " ومفعولُ " بَثَّ " محذوفٌ " تقديرُه : وبثَّ فيها دوابَّ كلَّ دابِةٍ " ، وظاهرُ هذا أنَّ { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } صفةٌ لذلك المحذوفِ وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته .
والبَثُّ : نَشْرٌ وتفريق ، قال :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي الأرضِ مَبْثُوثاً شجاعٌ وعَقْربُ
ومضارعُه يَبُثُّ بضمِّ العَيْنِ ، وهو قياسُ المضاعفِ المتعدِّي ، وقد جاء الكسرُ في أُلَيَفاظ ؛ قالوا : " نَمَّ الحديثَ يَنِمُّه " بالوجهين . والدابَّةُ : اسمٌُ لكلِّ حيوانٍ ، وزعَم بعضُهم إخراجَ الطيرِ منه ورُدَّ عليه بقولِ عَلْقمة :
كأنَّهم صابَتْ عليهم سَحابةٌ *** صواعِقُها لطيرِهِنَّ دَبيبُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . دبيبَ قَطا البَطْحَاءِ في كلِّ مَنْهَلِ
وبقوله : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] ، ثم فَصَّل بمَنْ يمشي على رِجْلين وهو الإِنسانُ والطير .
قوله : { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } " تصريف " مصدر صَرَّف وهو الردُّ والتقليبُ ، ويجوز أن يكونَ مضافاً للفاعل ، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه : وتصريفِ الرياحِ السحابَ ، فإنها تسوقُ السحابَ ، وأن يكونَ مضافاً للمفعولِ ، والفاعلُ محذوفٌ أي : وتصريفِ اللهِ الريحَ . والرياحُ : جمعُ ريح جمعَ تكسير ، وياءُ الريحِ والرياحِ عن واوٍ ؛ والأصلُ : رِوْح ، لأنه من راح يروح ، وإنما قُلِبَتْ في " ريح " لسكونها وانكسار ما قبلها ، وفي " رياح " لأنها عينٌ في جمعٍ بعد كسرةٍ وبعدَها ألفٌ وهي ساكنةٌ في المفردِ ، وهو إبدالٌ مطردٌ ، ولذلك لمّا زال موجبُ قَلْبِها رَجَعَتْ إلى أصلِها فقالوا : أَرْواح قال :
أَرَبَّتْ بها الأرواحُ كلَّ عَشِيَّةٍ *** فلم يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ
لَبَيْتٌ تَخْفُقُ الأرواحُ فيه *** أَحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وقَدْ لَحَنَ عمارةُ بن عقيل بن بلال فقال " الأرياح " في شعرِه ، فقال له أبو حاتم : " إن الأرياح لا تجوزُ " فقال له عمارة : ألا تسمع قولهم : رياح . فقال أبو حاتم : هذا خلافُ ذلك ، فقال : صَدَقْتَ ورَجَعَ . قال الشيخ : " وفي محفوظي قديماً أنَّ " الأرياح " جاء في شِعْر بعضِ فصحاءِ العرب المستشهدِ بكلامِهم كأنهم بَنَوْه على المفردِ وإن كانت علةُ القلبِ مفقودةً في الجمع ، كما قالوا : عيد وأعياد ، والأصلُ : أَعْواد لأنه من عاد يَعُود ، لكنه لمَّا تُرِك البدلُ جُعِلَ كالحرفِ الأصليِّ " . قلت : ويؤيِّد ما قاله الشيخُ أن التزامهم الياء في الأرياح لأجلِ اللَّبسِ بينه وبي أَرْواح جمع رُوح ، كما قالوا : التُزِمَت الياءُ في أعياد فرقاً بينه وبين أَعْواد جمع عُود الحطبِ ، ولذلك قالوا في التصغير عُيَيْد دون عُوَيْد ، وعَلَّلوه باللَّبْسِ المذكورِ .
قال ابنُ عطية : " وجاءَتْ في القرآنِ مجموعةً مع الرحمةِ مفردة مع العذابِ إلا في قولِه : { وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [ يونس : 22 ] وهذا أَغْلَبُ وقوعِها في الكلامِ ، وفي الحديث : " الله اجعلها رياحاً ولا تَجْعَلْها ريحاً " لأنَّ ريحَ العذابِ شديدةٌ ملتئمةٌ الأجزاءِ كأنّها جسمٌ واحدٌ ، وريحُ الرحمةِ ليِّنةٌ متقطعةٌ ، وإنما أُفرِدَتْ مع الفُلْك - يعني في يونس - لأنها لإِجراء السفن وهي واحدةٌ متصلةٌ ؛ ثم وُصِفَتْ بالطيِّبة فزالَ الاشتراكُ بينها وبين ريح العذاب " . انتهى وهذا الذي قالَه يَرُدُّه اختلافُ القراءِ في أحدَ عشر موضعاً يأتي تفصيلُها . وإنما الذي يقال : إنَّ الجمعَ لم يأتِ مع العذابِ أصلاً ؛ وأمَّا المفردُ فجاءَ فيهما ، ولذلك اختصَّها عليه السلام في دعائِه بصيغةِ الجمعِ .
وقرأ هنا " الريح " بالإِفراد حمزةُ والكسائي ، والباقون بالجمع ، فالجمعُ لاختلافِ أنواعِها : جَنوباً ودَبوراً وصَبا وغيرَ ذلك ، وإفرادُها على إرادة الجنس .
والسحابُ : اسمُ جنسٍ واحدَتُه سَحابةٌ ، سُمِّي بذلك لانسحابِه ، كما قيل له : حَبِيٌّ لأنه يَحْبُو ، ذكر ذلك أبو علي ، وباعتبار كونِه اسمَ جنس وَصَفَه بوصفِ الواحدِ المذكَّر في قوله : " المُسَخَّر " كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ولمّا اعتبر معناه تارةً أخرى وَصَفَه بما يوصَفُ به الجمعُ في قوله : { سَحَاباً ثِقَالاً } [ الأعراف : 57 ] ، ويجوز أن يوصفَ بما تُوصفُ به المؤنثةُ الواحدةُ كقولِه : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } / [ الحاقة : 7 ] وهكذا كلُّ اسم جنس فيه لغتان : التذكيرُ باعتبارِ اللفظِ والتأنيثُ باعتبارِ المعنى .
والتسخيرُ : التذليلُ وجَعْلُ الشيءِ داخلاً تحت الطَّوْعِ . وقال الراغب : " هو القَهْرُ على الفعلِ وهو أبلغُ من الإِكراه " .
قوله : { بَيْنَ السَّمَآءِ } في " بين " قولان ، أحدهما : أنه منصوبٌ بقوله : " المُسخَّرِ " ؛ فيكونُ ظرفاً للتسخير . والثاني : أن يكونَ حالاً من الضمير المستتِر اسمِ المفعول ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً بين السماء و " لآياتٍ " اسمُ إنَّ والجارُ خبرٌ مقدمٌ ، ودَخَلَتِ اللامُ على الاسمِ لتأخُّرِه عن الخبر ، ولو كان موضعَه لما جازَ ذلك فيه .
وقوله : { لِّقَوْمٍ } في محلِّ نصبٍ لأنَّه صفةٌ لآيات ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ وقولُه " يَعْقِلون " الجملةُ في محلذ شجرٍ لأنها صفةٌ لقومٍ .