الليل : قيل هو اسم جنس ، مثل : تمرة وتمر ، والصحيح أنه مفرد ، ولا يحفظ جمعاً لليل ، وأخطأ من ظنّ أن الليالي جمع الليل ، بل الليالي جمع ليلة ، وهو جمع غريب ، ونظيره : كيكه والكياكي ، والكيكة : البيضة ، كأنهم توهموا أنهما ليلاه وكيكاه ، ويدل على هذا التوهم قولهم في تصغير ليلة : لييلية ، وقد صرحوا بليلاه في الشعر ، قال الشاعر :
على أنه يحتمل أن تكون هذه الألف إشباعاً نحو :
وقال ابن فارس : بعض الطير يسمى ليلاً ، ويقال : إنه ولد الحبارى .
وأما النهار : فجمعه نهر وأنهرة ، كقذل وأقذلة ، وهما جمعان مقيسان فيه .
وقيل : النهار مفرد لا يجمع لأنه بمنزلة المصدر ، كقولك : الضياء يقع على القليل والكثير ، وليس بصحيح .
لولا الثريدان هلكنا بالضمر *** ثريد ليل وثريد بالنهر
ويقال : رجل نهر ، إذا كان يعمل في النهار ، وفيه معنى النسب .
قالوا : والنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعدي : « إنما هو بياض النهار وسواد الليل » ، يعني في قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } وظاهر اللغة أنه من وقت الأسفار .
وقال النضر بن شميل : ويغلب أول النهار طلوع الشمس .
زاد النضر : ولا يعد ما قبل ذلك من النهار .
وقال الزجاج ، في ( كتب الأنواء ) : أول النهار ذرور الشمس ، واستدل بقول أمية بن أبي الصلت :
والشمس تطلع كل آخر ليلة *** حمراء يصبح لونها يتورد
وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا
إذا طلعت شمس النهار فإنها *** أمارة تسليمي عليك فودّعي
وقال ابن الأنباري : من طلوع الشمس إلى غروبها نهار ، ومن الفجر إلى طلوعها مشترك بين الليل والنهار .
وقد تقدمت مادّة نهر في قوله : { تجري من تحتها الأنهار } الفلك : السفن ، ويكون مفرداً وجمعاً .
وزعموا أن حركاته في الجمع ليست حركاته في المفرد ، وإذا استعمل مفرد أنثى ، قالوا : فلكان .
وقيل : إذا أريد به الجمع ، فهو اسم جمع ، والذي نذهب إليه أنه لفظ مشترك بين المفرد والجمع ، وأن حركاته في الجمع حركاته في المفرد ، ولا تقدر بغيرها .
وإذا كان مفرداً فهو مذكر ، كما قال : { في الفلك المشحون } وقالوا : ويؤنث تأنيث المفرد ، قال : { والفلك التي تجري } ، ولا حجة في هذا ، إذ يكون هنا استعمل جمعاً ، فهو من تأنيث الجمع ، والجمع يوصف بالتي ، كما توصف به المؤنثة .
وقيل : واحد الفُلك ، فَلَك ، كأُسُد وأَسَد ، وأصله من الدوران ، ومنه : فلك السماء الذي تدور فيه النجوم ، وفلكة المغزل ، وفلكة الجارية : استدرار نهدها .
وفي الأرض مبثوثاً شجاع وعقرب***
ومضارعه : يبث ، على القياس في كل ثلاثي مضعف متعد أنه يفعل إلاّ ما شذ .
الدابة : اسم لكل حيوان ، ورد قول من أخرج منه الطير بقول علقمة :
كأنهم صابت عليهم سحابة *** صواعقها لطيرهنّ دبيب
دبيب قطا البطحاء في كل منهل***
وفعله : دب يدب ، وهذا قياسه لأنه لازم ، وسمع فيه يدب بضم عين الكلمة ، والهاء في الدابة للتأنيث ، إما على معنى نفس دابة ، وإما للمبالغة ، لكثرة وقوع هذا الفعل ، وتطلق على الذكر والأنثى .
التصريف : مصدر صرف ، ومعناه : راجع للصرف ، وهو الرد .
الرياح : جمع ريح ، جمع تكسير ، وياؤه واو لأنها من راح يروح ، وقلبت ياء لكسرة ما قبلها ، وحين زال موجب القلب ، وهو الكسر ، ظهرت الواو ، وقالوا : أرواح ، كجمع الروح .
أريت بها الأرواح كل عشية *** فلم يبق إلا ال نؤي منضد
قال ابن عطية : وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ، فاستعمل الأرياح في شعره ، ولحن في ذلك .
وقال أبو حاتم : إن الأرياح لا يجوز ، فقال له عمارة : ألا تسمع قولهم : رياح ؟ فقال له أبو حاتم : هذا خلاف ذلك ، فقال له : صدقت ورجع . انتهى .
وفي محفوظي قديماً أن الأرياح جاءت في شعر بعض فصحاء العرب الذين يستشهد بكلامهم ، كأنهم بنوه على المفرد ، وإن كانت علة القلب مفقودة في الجمع ، كما قالوا : عيد وأعياد ، وإنما ذلك من العود ، لكنه لما لزم البدل جعله كالحرف الأصلي .
السحاب : اسم جنس ، المفرد سحابة ، سمي بذلك لأنه ينسحب ، كما يقال له : حبى ، لأنه يحبو ، قاله أبو علي .
التسخير : هو التذليل وجعل الشيء داخلاً تحت الطوع .
قال الراغب : التسخير : القهر على الفعل ، وهو أبلغ من الإكراه .
{ إن في خلق السموات والأرض } : روي أنه لما نزل { وإلهكم } الآية ، قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد ؟ فنزل : { إن في خلق } .
ولما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية واختصاصه بالإلهية ، استدل بهذا الخلق الغريب والبناء العجيب استدلالاً بالأثر على المؤثر ، وبالصنعة على الصانع ، وعرفهم طريق النظر ، وفيم ينظرون .
فبدأ أولاً بذكر العالم العلوي فقال : { إن في خلق السموات } .
وخلقها : إيجادها واختراعها ، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها من قولهم : خلق فلان حسن : أي خلقته وشكله .
وقيل : خلق هنا زائدة والتقدير : إن في السموات والأرض ، لأن الخلق إرادة تكوين الشيء .
والآيات في المشاهد من السموات والأرض ، لا في الإرادة ، وهذا ضعيف ، لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان ، ولأن الخلق ليس هو الإرادة ، بل الخلق ناشىء عن الإرادة .
قالوا : وجمع السموات لأنها أجناس ، كل سماء من جنس غير جنس الأحرى ، ووحد الأرض لأنها كلها من تراب .
وبدأ بذكر السماء لشرفها وعظم ما احتوت عليه من الأفلاك والأملاك والعرش والكرسي وغير ذلك ، وآياتها : ارتفاعها من غير عمد تحتها ، ولا علائق من فوقها ، ثم ما فيها من النيرين ، الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة ، شارقة وغاربة ، نيرة وممحوّة ، وعظم أجرامها وارتفاعها ، حتى قال أرباب الهيئة : إن الشمس قدر الأرض مائة وأربع وستين مرّة ، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرّات ، وإن الأفلاك عظيمة الأجرام ، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها ، وإنها سبعة أفلاك ، يجمعها الفلك المحيط .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أطت السماء وحق لها أن تئط ، ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد » وصح أيضاً .
« أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً ، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة » وآية الأرض : بسطها ، لا دعامة من تحتها ولا علائق من فوقها ، وأنهارها ومياهها وجبالها ورواسيها وشجرها وسهلها ووعرها ومعادنها ، واختصاص كل موضع منها بما هيىء له ، ومنافع نباتها ومضارها .
وذكر أرباب الهيئة أن الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة ، وأن البحار محيطة بها ، والهواء محيط بالماء ، والنار محيطة بالهواء ، والأفلاك وراء ذلك .
وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه المعروف ( بالدقائق ) خلافاً عن الناس المتقدمين : هل الأرض واقفة أم متحركة ؟ وفي كل قول من هذين مذاهب كثيرة في السبب الموجب لوقوفها ، أو لتحركها .
وكذلك تكلموا على جرم السموات ولونها وعظمها وأبراجها ، وذكر مذاهب للمنجمين والمانوية ، وتخاليط كثيرة .
والذي تكلم عليه أهل الهيئة هو شيء استدلوا عليه بعقولهم ، وليس في الشرع شيء من ذلك .
والمعتمد عليه أن هذه الأشياء لا يعلم حقيقة خلقها إلا الله تعالى ، ومن أطلعه الله على شيء منها بالوحي
{ أحاط بكل شيء علماً } { وأحصى كل شيء عدداً }
{ واختلاف الليل والنهار } : اختلافهما بإقبال هذا وإدبار هذا ، أو اختلافهما بالأوصاف في النور والظلمة ، والطول والقصر ، أو تساويهما ، قاله ابن كيسان .
وقدم الليل على النهار لسبقه في الخلق ، قال تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } وقال قوم : إن النور سابق على الظلمة ، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم .
فعلى القول الأول : تكون ليلة اليوم هي التي قبله ، وهو قول الجمهور ؛ وعلى القول الثاني : ليلة اليوم هي الليلة التي تليه ، وكذلك ينبني على اختلافهم في النهار ، اختلافهم في مسألة : لو حلف لا يكلم زيداً نهاراً .
{ والفلك التي تجري في البحر } : أول من عمل الفلك نوح ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وقال له جبريل عليه السلام : ضعها على جؤجؤ الطائر .
فالسفينة طائر مقلوب ، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله أبو بكر بن العربي .
وآيتها تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ، ووقوفها فوقه مع ثقلها وتبليغها المقاصد .
ولو رميت في البحر حصاة لغرقت .
ووصفها بهذه الصفة من الجريان ، لأنها آيتها العظمى ، وجعل الصفة موصولاً ، صلته تجري : فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها .
وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد ، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر .
والألف واللام فيه للجنس ، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع ، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري .
{ بما ينفع الناس } : يحتمل أن تكون ما موصولة ، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد ، فتكون الباء للحال .
ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما ، فتكون الباء للسبب .
واقتصر على ذكر النفع ، وإن كانت تجري بما يضر ، لأنه ذكرها في معرض الامتنان .
{ وما أنزل الله من السماء من ماء } : أي من جهة السماء .
من الأولى لابتداء الغاية تتعلق بأنزل ، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما ، أي والذي أنزله الله من السماء .
ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله : { من السماء } ، بدل اشتمال ، فهو على نية تكرار العامل ، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى ، أو للتبعيض ، وتتعلق بإنزل .
ولا يقال : كيف تتعلق بإنزل من الأولى والثانية ، لأن معنييهما مختلفان .
{ فأحيا به الأرض بعد موتها } : عطف على صلة ما ، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات ، وبه عائد على الموصول .
وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات ، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره .
وهما كنايتان غريبتان ، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذية والنامية والمحركة ، وما لم يظهر فهو كامن فيها ، كأنه دفين فيها ، وهي له قبر .
{ وبث فيها من كل دابة } : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين ، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول ، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره : وبث فيها من كل دابة .
لكن حذف هذا الضمير ، إذا كان مجروراً بالحرف ، له شرط ، وهو أن يدخل على الموصول ، أو الموصوف بالموصول ، أو المضاف إلى الموصول حرف جر ، مثل ما دخل على الضمير لفظاً ومعنى ، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع ، وأن لا يكون محصوراً ، ولا في معنى المحصور ، وأن يكون متعيناً للربط .
قال الزمخشري : فإن قلت قوله : { وبث فيها } ، عطف على أنزل أم أحيا ؟ قلت : الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة ، لأن قوله : { فأحيا به الأرض } عطف على أنزل ، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد ، وكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة .
ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة ، لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة .
وكيفما قدّرت من تقديرية ، لزم أن يكون في قوله : { وبث فيها من كل دابة } ضمير يعود على الموصول ، سواء أعطفته على أنزل ، أو على فأحيا ، لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول .
والذي يتخرّج على الآية ، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله : { وما أنزل } ، التقدير : وما بث فيها من كل دابة ، فيكون ذلك أعظم في الآيات ، لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها ، وما أودع في كل شكل ، شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة ، وذلك من الفيل إلى الذرة ، وما أوجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر .
فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر ، لا أنه يجعل منسوقاً في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي ، غير أن عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب ، وإن كان البصريون لا يقيسونه ، فقد قاسه غيرهم ، قال بعض طي :
ما الذي دأبه احتياط وحزم*** وهواه أطاع مستويان
أمن يهجو رسول الله منكم*** ويمدحه وينصره سواء
فوالله ما نلتم وما نيل منكم*** بمعتدل وفق ولا متقارب
يريد : ما الذي نلتم وما نيل منكم ، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى : { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } ، أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى : { والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى ، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه ، وقد جاء ذلك في أشعارهم ، قال :
وإن لساني شهدة يشتفى بها***وهو على من صبه الله علقم
يريد : من صبه الله عليه ، وقال :
لعلّ الذي أصعدتني أن تردني*** إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر
فعلى هذا القول يكون { من كل دابة } في موضع المفعول ، ومن تبعيضية .
وعلى مذهب الأخفش ، يجوز أن تكون زائدة ، وكل دابة هو نفس المفعول ، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفاً ، أي : وبثه ، وتكون من حالية ، أي : كائناً من كل دابة ، فهي تبعيضية ، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك .
{ وتصريف الرّياح } في هبوبها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وفي أوصافها حارة وباردة ولينة وعاصفة وعقيماً ولواقح ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين .
وقيل : تارة بالرحمة ، وتارة بالعذاب .
وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما يحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنها ما يضر بها ، ولا اعتبار بكبر القلوع ولا صغرها ، فإنها لو جاءت جسداً واحداً لصدمت القلوع وأغرقت .
وقد تكلموا في أنواع الريح واشتقاق أسمائها وفي طبائعها ، وفيما جاء فيها من الآثار ، وفيما قيل فيها من الشعر ، وليس ذلك من غرضنا .
والريح جسم لطيف شفاف غير مرئي ، ومن آياته ما جعل الله فيه من القوة التي تقلع الأشجار وتعفي الآثار وتهدم الديار وتهلك الكفار ، وتربية الزرع وتنميته واشتداده بها ، وسوق السحاب إلى البلد الماحل .
واختلف القراء في إفراد الرّيح وجمعه في أحد عشر موضعاً .
هذا ، وفي الشريعة وفي الأعراف : { يرسل الرياح } و { اشتدت به الرّيح } و { أرسلنا الرّياح لواقح } و { تذروه الرّياح } وفي الفرقان : { أرسل الرياح } و { من يرسل الرياح } وفي الروم : { ألله الذي يرسل الرياح } وفي فاطر : { أرسل الرياح } ، وفي الشورى : { إن يشأ يسكن الرياح } فأفرد حمزة إلا في الفرقان ، والكسائي إلا في الحجر ، وجمع نافع الجميع والعربيان إلا في إبراهيم والشورى ، وابن كثير في البقرة والحجر والكهف والشريعة فقط .
وفي مصحف حفصة هنا وتصريف الأرواح .
ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام .
وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : { وجرين بهم بريح طيبة } وفي الحديث : « اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » قال ابن عطية : لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة منقطعة ، فلذلك هي رياح ، وهو معنى ينشر ، وأفردت مع الفلك ، لأن ريح أجزاء السفن إنما هي واحدة متصلة .
ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب ، انتهى .
ومن قرأ بالتوحيد ، فإنه يريد الجنس ، فهو كقراءة الجمع .
والرياح في موضع رفع ، فيكون تصريف مصدراً مضافاً للفاعل ، أي وتصريف الرياح ، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله .
ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، فيكون المصدر في المعنى مضافاً إلى الفاعل ، وفي اللفظ مضافاً إلى المفعول ، أي وتصريف الله الرياح .
{ والسحاب المسخر } ، تسخيره : بعثه من مكان إلى مكان .
وقيل : تسخيره : ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه .
ووصف السحاب هنا بالمسخر ، وهو مفرد لأنه اسم جنس ، وفيه لغتان : التذكير : كهذا وكقوله : { أعجاز نخل منقعر } ، والتأنيث على معنى تأنيث الجمع ، فتارة يوصف بما يوصف به الواحدة المؤنثة ، وتارة يوصف بما يوصف به الجمع كقوله تعالى : { حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً } قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض .
فقيل : السحاب يأخذ المطر من السماء ، وقيل : يغترفه من بحار الأرض ، وقيل : يخلقه الله فيه ، وللفلاسفة فيه أقوال .
وجعل مسخراً باعتبار إمساكه الماء ، إذ الماء ثقيل ، فبقاؤه في جوّ الهواء هو على خلاف ما طبع عليه ، وتقديره بالمقدار المعلوم الذي فيه المصلحة ، يأتي به الله في وقت الحاجة ، ويرده عند زوال الحاجة ، أو سوقه بواسطة تحريك الريح إلى حيث أراد الله تعالى .
وفي كل واحد من هذه الأوجه استدلال على الوحدانية .
{ بين السماء والأرض } : انتصاب بين على الظرف ، والعامل فيه المسخر ، أي سخر بين كذا وكذا ، أو محذوف تقديره كائناً بين ، فيكون حالاً من الضمير المستكن في المسخر .
{ لآيات لقوم يعقلون } : دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها ، إذ لو كان يليها ، ما جاز دخولها ، وهي لام التوكيد ، فصار في الجملة حرفا تأكيد : إن واللام .
ولقوم : في موضع الصفة ، أي كائنة لقوم .
والجملة صفة لقوم ، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلاً ، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية الله تعالى ، وانفراده بالإلهية ، وعظيم قدرته ، وباهر حكمته .
وقد أثر في الأثر : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها ، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد ، وأنه منفرد بالإلهية ، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار .
ثم مع كونها دلائل ، بل هي نعم من الله على عباده ، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل ، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر .
لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكناً من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب ، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية ، وإن جعلنا : وبث فيها ، على حذف موصول ، كما قدرناه في أحد التخريجين ، كانت تسعة ، وهي باعتبار تصير إلى أربعة : خلق ، واختلاف ، وإنزال ماء ، وتصريف .
فبدأ أولاً بالخلق ، لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية ، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف .
{ أفمن يخلق كمن لا يخلق } { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون } ودل الخلق على جميع الصفات الذاتية ، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة ، وقدّم السموات على الأرض لعظم خلقها ، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك .
ثم أعقب ذكر خلق السموات والأرض باختلاف الليل والنهار ، وهو أمر ناشىء عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السموات .
ثم أعقب ذلك بذكر الفلك ، وهو معطوف على الليل والنهار ، كأنه قال : واختلاف الفلك ، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، وهو أمر ناشىء عن بعض الأجرام السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض .
ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو إنزال الماء من السماء ، ونشر ما كان دفيناً في الأرض بالأحياء .
وجاء هذا المشترك مقدماً فيه السبب على المسبب ، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم .
ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به ، وهو تصريف الرياح والسحاب .
وقدم الرياح على السحاب ، لتقدم ذكر الفلك ، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك .
فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر ، حيث بدأ أولاً باختراع السموات والأرض ، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي ، ثم أتى ثالثاً بذكر ما نشأ عن العالم السفلي ، ثم أتى بالمشترك .
ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به ، وهو التصريف المشروح .
وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين : قسم مدرك بالبصائر ، وقسم مدرك بالأبصار .
فخلق السموات والأرض مدرك بالعقول ، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار .
والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود ، مستدل عليه بالعقول ، فلذلك قال تعالى : { لآيات لقوم يعقلون } ، ولم يقل : لآيات لقوم يبصرون ، تغليباً لحكم العقل ، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى .