السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (164)

/خ163

فإن قيل : لم جمع السموات وأفرد الأرض ؟ أجاب البيضاويّ : بأنّ السموات طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين اه . وهذا إنما يأتي على قول بعض الحكماء أنّ المراد بالأرضين الأقاليم ، والأولى ما أجاب به البغوي من أنّ كلاً منها جنس آخر ، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب أي : فهي طبقات كالسموات ، والآية في السموات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة ، وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك والآية في الأرض مدّها أو بسطها وسعتها وما يرى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات وغير ذلك .

{ واختلاف الليل والنهار } أي : تعاقبهما في المجيء والذهاب يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي : بعده قال تعالى : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } ( الفرقان ، 63 ) قال عطاء : أراد اختلافهما في النور والظلمة ، والزيادة والنقصان ، والليل : جمع ليل ، والليالي : جمع الجمع ، والنهار : جمع نهر . وقدّم الليل على النهار في الذكر ؛ لأنه أقدم قال تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } ( يس ، 37 ) { والفلك } أي : السفن { التي تجري في البحر بما ينفع الناس } من التجارة والحمل ، والآية فيها تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقورة لا ترسب تحت الماء .

تنبيه : أنث الفلك ؛ لأنه بمعنى السفينة ؛ لأنّ واحد السفن وجمعه سواء إذ لو كانت بمعنى المركب لذكرها مع أنها في اللغة تذكر وتؤنث ، قال تعالى : { إذ أبق إلى الفلك المشحون } ( الصافات ، 140 ) وضمة الجمع غير ضمة الواحدة تقديراً ؛ إذ هي في الجمع كالضمة في حمر ، وفي الواحد كالضمة في قفل ، قال البيضاوي : والقصد به أي : الفلك إلى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك بالذكر ؛ لأنه سبب الخوض فيه أي : البحر والاطلاع على عجائبه ، ولذلك قدّمت على ذكر المطر والسحاب ؛ لأنّ منشأهما البحر في غالب الأمر اه . فجعل الآية في البحر لا في السفن ، والأولى جعل الآية فيها وقوله ؛ لأنّ منشأهما البحر هو قول الحكماء والإشارة على خلافه وهو الذي دلت عليه الأخبار . قال شيخنا القاضي زكريا : وحاصله : أنّ السحاب من شجرة مثمرة في الجنة ، والمطر من بحر تحت العرش { وما أنزل الله من السماء من ماء } أي : مطر .

تنبيه : من الأولى للابتداء ، والثانية للبيان ، قال البغويّ : قيل : أراد بالسماء السحاب يخلق الله الماء في السحاب ، ثم من السحاب ينزل . وقيل : أراد بالسماء المعروفة يخلق الله الماء في السماء ، ثم ينزل من السماء إلى السحاب ؛ ثم من السحاب ينزل إلى الأرض اه . وفيه ما مرّ { فأحيا به الأرض } بالنبات { بعد موتها } أي : يبسها وجدوبتها { وبث } أي : فرّق ونشر بالماء { فيها } في الأرض { من كلّ دابة } .

فإن قيل : هل بث عطف على أنزل أو أحيا ؟ أجيب : بأنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة ؛ لأن قوله : فأحيا به الأرض عطف على أنزل ، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد ، فكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة ، ويجوز عطفه على أحيا على معنى ، فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة ؛ لأن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا أي : المطر { وتصريف الرياح } إلى قبول ودبور ، وجنوب وشمال ، فالقبول : الصبا وهي التي تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ، والدبور : تقابلها ، والشمال : التي تهب من جانب القطب ، والجنوب : تقابلها . قال ابن عباس : أعظم جنود الله الريح والماء ، وسميت الريح ريحاً ؛ لأنها تريح النفوس . قال شريح القاضي : ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح .

فائدة : البشارة في ثلاث : من الرياح في الصبا ، والشمال والجنوب . أمّا الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها ، وقيل الرياح ثمانية : أربعة للرحمة وهي : المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات ، وأربعة : للعذاب وهي العقيم والصرصر في البر ، والعاصف والقاصف في البحر . وقرأ حمزة والكسائيّ : الريح بالتوحيد ، والباقون بالجمع .

فائدة أخرى : كل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولام اتفق القرّاء على توحيدها ، وما فيها ألف ولام كما هنا ، اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا الحرف الأوّل في سورة الروم الرياح مبشرات اتفقوا على جمعها ، والريح تذكر وتؤنث { والسحاب } أي : الغيم { المسخر } أي : المذلل بأمر الله يسير حيث شاء الله { بين السماء والأرض } بلا علاقة لا ينزل ولا يرتفع مع أنّ الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله . وقيل : تسخير السحاب تقليبه في الجوّ بمشيئة الله واشتقاقه من السحب ؛ لأنّ بعضه يجر بعضاً { لآيات } أي : دلالات واضحات على وحدانية الله تعالى { لقوم يعقلون } أي : ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون ؛ لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة . وقول البيضاويّ : وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها ) . أي : لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها . قال الوليّ العراقيّ : لم أقف عليه . وقال السيوطي : لم يرد في هذه الآية ولا بهذا اللفظ ، ثم قال عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( أنزل عليّ الليلة { إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) » ثم قال : ( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ) . قيل : للأوزاعيّ ما غاية التفكر فيهنّ ؟ قال : يقرأهنّ وهو يعقلهنّ انتهى ولا ينافي هذا أنه ورد أيضاً في هذه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ قال البيضاويّ : وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله وحث على البحث والنظر فيه انتهى .

ولا ينافي هذا قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب ما عدا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام ؛ لأنه محمول على التوغل فيه ، فيصير فلسفياً .