فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (164)

{ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } .

{ إن في خلق السماوات والأرض } لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله { وإلهكم إله واحد } عقب ذلك بالدليل الدال عليه وهو هذه الأمور الثمانية التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم ، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أخذ من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأتي بشيء منها أو يقتدر عليه أو على بعضه ، وهي خلق السماوات ، وتعاقب الليل والنهار ، وجري الفلك في البحر وإنزال المطر من السماء ، وإحياء الأرض به ، وبث الدواب فيها بسببه ، وتصريف الرياح ، وتسخير السحاب فإن من أمعن نظره وأعمل فكره في واحد منها انبهر له وضاق ذهنه عن تصور حقيقته ، وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه ، وإنما جمع السماوات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى ووحد الأرض لأنها كلها من جنس واحد وهو التراب والآية في السماء سمكها وارتفاعها بغير عمد ، ولا علاقة ما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم ، والآية في الأرض مدها وبسطها على الماء وما يرى فيها من الجبال والبحار ، والمعادن والجواهر ، والأنهار والأشجار والثمار والنبات .

{ واختلاف الليل والنهار } تعاقبهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر ، وإضاءة أحدهما وإظلام الآخر ، وقيل في الطول والقصر والزيادة والنقصان قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه ثالث هو أنهما كما يختلفان في الأزمنة فهما يختلفان في الأمكنة فإن من يقول إن الأرض كرة فكل ساعة عينتها فتلك الساعة في موضع من الأرض صبح ، وفي موضع آخر ظهر وفي آخر عصر ، وفي آخر مغرب . وفي آخر عشاء . وهلم جرا . هذا إذا اعتبرنا البلاد المختلفة في الطول أما البلاد المختلفة في العرض فكل بلد يكون عرضه للشمال أكثر كانت أيامه الصيفية فيه أطول وأيامه الشتوية بالضد من ذلك ، فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلاد وعروضها أمر عجيب قاله الكرخي .

وإنما قدم الليل على النهار لأن الظلمة أقدم . قال تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } وهذا أصح القولين ، وقيل النور سابق الظلمة ، ويبني على هذا الخلاف فائدة وهي أن الليلة هل هي تابعة لليوم قبلها أو لليوم بعدها ، فعلى القول الصحيح تكون الليلة لليوم بعدها فيكون اليوم تابعا لها ، وعلى القول الثاني تكون لليوم قبلها فتكون الليلة تابعة له ، فيوم عرفة على القول الأول مستثنى من الأصل فإنه تابع لليلة بعده ، وعلى الثاني جاء على الأصل .

والآية فيهما أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة يكون في النهار وطلب النوم والراحة يكون بالليل ، فاختلافهما إنما هو لتحصيل مصالح العباد ، والنهار ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس وقال النضر ابن شميل : أول النهار طلوع الشمس ولا يعد ما قبل ذلك من النهار ، وكذا قال ثعلب والزجاج وقسم الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام : قسما جعله ليلا محضا وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، وقسما جعله نهارا محضا وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار ، هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة ، وأما في الشرع فالكلام في ذلك معروف .

{ والفلك التي تجري في البحر } وهي في السفن وإفراده بلفظ واحد وهو ما يذكر ويؤنث ، قال تعالى { في الفلك المشحون } و { الفلك التي تجري في البحر } وقال { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } وقيل واحده فلك بالتحريك مثل أسد وأسد والآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة بالأثقال والرجال ، فلا ترسب وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة وتسخير البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان الماء وهيجان البحر فلا ينجي منه إلا الله تعالى .

{ بما ينفع الناس } يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات لطلب الأرباح ، والآية في ذلك أن الله لو لم يقوي قلب من يركب هذه السفن لما تم الغرض في منافعهم وأيضا فإن الله خص كل قطر من أقطار العالم بشيء معين وأحوج الكل إلى الكل ، فصار ذلك سببا يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن وخوف البحر وغير ذلك فالحامل ينتفع لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه .

{ وما أنزل الله من السماء من ماء } أي المطر الذي به حياة العالم وإخراج النبات والأرزاق { فأحيا به الأرض } أي أظهر نضارتها وحسنها { بعد موتها } أي بعد يبسها وجدبها ، سماه موتا مجازا ، والآية في هذين الله جعله سببا لإحياء الجميع من حيوان ونبات ونزوله عند وقت الحاجة إليه بمقدار المنفعة وعند الاستسقاء والدعاء ، وإنزاله بمكان دون مكان { وبث فيها } أي في الأرض { من كل دابة } قال ابن عباس : يريد كل ما دب على وجه الأرض من جميع الخلق من الناس وغيرهم ، والآية في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد وهو آدم مع ما فيهم من الاختلاف في الصور والأشكال والألوان والألسنة ، والطبائع والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان ، والبث النشر ، والظاهر أن قوله { بث } معطوف على قوله فأحيا لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر ، وقال في الكشاف : إن الظاهر عطفه على أنزل وقال أبو حيان : لا يصح على أنزل ولا على أحيا والصواب أنه على حذف الموصوف أي وما بث ، وفيه زيادة فائدة وهو جعله آية مستقلة وحذف الموصول شائع في كلام العرب انتهى .

{ وتصريف الرياح } أي إرسالها عقيما وملقحة وصرا ونصرا وهلاكا وحارة وباردة ولينة وعاصفة ، وقيل تصريفها في مهابها جنوبا وشمالا ودبورا وقبولا وصبا ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين ، وقيل تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها والصغار كذلك ، ولا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر وعن أبي ابن كعب : كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة وكل شيء من الريح فهي عذاب ، وقد ورد في النهي عن سب الريح وأوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية والآية في الريح أنه جسم لطيف لا يمسك ولا يرى وهو مع ذلك في غاية القوة بحيث يقلع الشجر والصخر ويخرب البنيان العظيم ، وهو مع ذلك حياة الوجود فلو أمسك طرفة عين لمات كل ذي روح وأنتن ما على وجه الأرض .

{ والسحاب المسخر بين السماء والأرض } أي الغيم المذلل ، سمي سحابا لانسحابه في الهواء وسحبت ذيلي سحبا وتسحب فلان على فلان اجترأ والمسخر المذلل ، وسخره بعثه من مكان إلى آخر وقيل تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق ، والأول أظهر ، والآية في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأودية العظيمة يبقى معلقا بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه ولا دعامة تسنده ، وفيه آيات أخر ففي هذه الأنواع الثمانية دلالة عظيمة على وجود الصانع القادر المختار وأنه الواحد في ملكه فلا شريك له ولا نظير ، وهو المراد بقوله وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو { لآيات لقوم يعقلون } أي دلالات على وجدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره ويتفكر بعقله ، وإنما جمع آيات لأن في كل واحد مما ذكر من هذه الأنواع آيات كثيرة تدل على أن لها خالقا مدبرا مختارا .