تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (164)

الآية 164 ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ) . خلق السماوات ، وجعل فيها منافع{[1883]} ، للخلق ، ثم جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض [ مع بعد ]{[1884]} ما بينهما ، إذ لا منفعة للخلق في منافع إحداهما إلا باتصال منافع الأخرى بها من نحو ما جعل من معرفة الطرق في الأرض بالكواكب وإنضاج الأعناب والثمار وينعها بالشمس والقمر ، وجعل إحياء الأرض وإخراج ما فيها من النبات من المأكول والمشروب والملبوس بالأمطار ، فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر وتعلقها به على أن منشئها واحد لأنه لو كان من اثنين لكان إذا قطع هذا وصل الآخر ، وإذ وصل هذا قطع الآخر ، فإذا لم يكن ، ولكنه اتصل ، دل أنه فعل واحد ، فهو ينقض على الثنوية والزنادقة قولهم ، وكذلك يدل اختلاف الليل والنهار على أن خالقهما واحد ، لأنه لو كان من اثنين لكان إذا أتى هذا بالليل منع الآخر بالنهار ، وإذا أتى أحدهما بالنهار منع الآخر بالليل ، وفيه ذهاب عيش الخلق ، وفي ذهابه تفانيهم وفسادهم ، فدل أنه واحد .

والثاني : أنه جعل للخلق في الليل والنهار منافع{[1885]} ، وجعل بعضها متصلة ببعض متعلقة مع تضادهما كقوله : ( ومن رحمته ، جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) [ القصص : 73 ] فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر مع اختلافهما وتضادهما أن محدثهما واحد .

[ والثالث : فيه ]{[1886]} دلالة حدث العالم لما ذكرنا من تغييرها وزوالها من حال إلى حال ، فدل تغيرها وزوالها على أنها حدث ، ودل أن جهل هذه الأشياء بابتدائها وعجزها على قدرة مثلها على أن لهما [ محدثا ، وأن ]{[1887]} كل واحد منهما ؛ أعني الليل والنهار ، يصير بمجيء الآخر مغلوبا ، فلو أن كان ثم لغير فيه تدبير ، لما{[1888]} احتمل أن يصير مغلوبا بعد ما كان غالبا ، فدل أن لهما محدثا ، وأنه واحد .

[ والرابع : فيه ]{[1889]} دلالة البعث والحياة بعد الموت لأن الليل يأتي على النهار فيتلفه ، ويذهب به حتى لا يبقى من أثر [ النهار شيء ، وكذلك النهار يأتي على الليل فيتلفه حتى لا يبقى من ]{[1890]} الليل شيء ، ثم وجد بعد ذلك كل واحد منهما على ما وجد في البداء{[1891]} من غير نقصان ولا تفاوت ؛ فدل أنه قادر على إنشاء ما أماته ، وأتلفه ، وإن لم يبق له أثر على ما قدر من إيجاد ما أتلف وإنشاء ما أذهب من الليل بالنهار ومن النهار بالليل ، وإن لم يبق له أثر .

وقوله{[1892]} : ( واختلاف الليل والنهار ) ؛ قيل{[1893]} : اختلافهما لما جعل أحدهما مظلما والآخر مضيئا ، وقيل : اختلافهما لنقصانهما وزيادتهما ، إذ ما ينتقص من أحدهما يزداد في الآخر ، فدل انتقاصهما وزيادتهما على أن منشئهما واحد ؛ لأنه لو كان من اثنين لمنع كل واحد منهما صاحبه من الزيادة والنقصان ، وبالله التوفيق ، ولتغير التدبير ، ولا يجري كل عام الأمر فيه على ما جرى عليه في العام الأول .

وقوله : /24-أ/ ( والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ) ؛ فالآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنه عز وجل جعل ( والفلك التي تجري في البحر ) من آياته ، والمعتزلة جعلوها من آيات البحارين لأن الفلك قبل أن يعمل فيها ، وينحت ، لا تسمى فلكا ، ولكن تسمى خشبا ، فلو لم يكن عمل العباد وفعلهم فيها من مصنوعه ومخلوقه [ لزال به موضع ]{[1894]} الحجاج وتسميته باسم الآيات . فدل أن له فيها صنعا وتقديرا حين صار من عجيب آياته .

ثم فيه أعجوبة ؛ وهي{[1895]} أن الطباع تنفر من معافجة{[1896]} البحر بالاطلاع على أمواجه وأهواله ، وأراهم من عظم آياته ما يجريه في البحر على الحفظ والأمر الواقع لهم ، فدل أنه من عند قادر لطيف خبير .

وفيه أيضا دلالة وحدانيته ؛ وذلك أن أهل البر لهم الانتفاع بأهل البحر ، ولأهل البحر الانتفاع بأهل البر على بعد ما بينهما وتضادهما ، فدل أن محدثهما واحد . ثم فيه دلالة إباحة التجارات مع الخطرات على احتمال المشقات وتحمل المؤونات . وفي ذلك دلالة النبوة لأن يعلم أن اتخاذ السفن وما{[1897]} فيه من المنافع لا يقوم له تدبير البشر ؛ ثبت أنه علم ذلك بمن علم جواهر الأشياء ، وما يصلح الأشياء وما لا يصلح ، وفي الحاجة إلى ذلك إيجاب القول بالرسالة للبشر .

وقوله : ( وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض ) فيه{[1898]} دلالة فضل العلوي على السفلي لأن ما ينزل من السماء من الماء ينزل عذبا ، وما يخرج من الأرض يخرج مختلفا ، منه ما هو عذب ، ومنه ما هو أجاج ، وما هو مر ، فدل دلالة فضل العلوي على السفلي .

وقوله : ( فأحيا به الأرض بعد موتها ) قد ذكرنا هذا{[1899]} أن فيه دلالة البعث .

وقوله : ( وبث فيها ) ؛ قيل : خلق ، وقيل : بسط ، وقيل : فرق .

[ وقوله ]{[1900]} : ( من كل دابة ) ؛ قيل : جعل فيها من كل جوهر الدابة ؛ منها ما جعل مأكولا منتفعا بها من كل أنواع المنافع ليبدلهم ، ويرغبهم على ما وعد لهم في الجنة ، ومنها ما جعل غير مأكولة ولا منتفع بها ، بل جعلها أعداء لهم ليبدلهم على تحذير ما أوعدوا ، وحذروا في النار .

وقوله : ( وتصريف الرياح ) يحتمل وجهين{[1901]} :

يحتمل : تصريفها مرة للعذاب ومرة للمنافع ، لأنه جعل فيها منافع كثيرة للخلق ؛ بها تجري السفن في البحار ، وبها ينتشر السحاب في الهواء ، وبها تنتقى الأشياء ، وبها يتميز ما للخلق مما للدواب مما يكثر ذلك ، ثم يعلم من عظم لطفه أنه جعل الهواء بحال لا يقر فيها شيء ، وإن لطف ، والسحاب مع غلظه وكثافته ، جعل الهواء مع [ لطافته ورقته ]{[1902]} مقرا للسحاب حتى يعلم أن ليس لغير الله فيه تدبير .

ويحتمل تصريف الرياح صرفه{[1903]} إياها مرة صبا ومرة دبورا ومرة جنوبا ومرة نسيما ومرة يمينا ومرة شمالا للمنافع .

ثم فيه دلالة أنها من الأجسام لا من الأعراض لأنه عز وجل جعلها ماسة مانعة لا صارعة من قام في ناحيتها ، وذلك صفة الأجسام لا صفة الأعراض ، لكن لا ترى للطافتها ، فدل أن{[1904]} من الأجسام ما لا يرى ولا يمس ، كالهواء لا يرى ولا يمس ، وكالذرة لا ترى ولا تمس .

ثم دلهم عز وجل أن الذي سخر السحاب بالرياح التي جعلها في الهواء ، وما{[1905]} فيها من المنافع التي تقدم ذكرها على أن مدبرها واحد . إذ لو كان التدبير من عند اثنين لأوجب التناقض في التدبير والصنعة ، إذ يجعل كل منهما على خلاف ما جعله الآخر ، ويتدبر كل منهما لينقص تدبير الآخر في اتساق التدبير . وإتقان{[1906]} الصنعة وإحكامها دليل أن إلهكم هو الواحد الذي دعتكم هذه الأشياء إلى الإقرار بوحدانيته ، وألزمتكم العبودية له بما أودع له في كل هذه المصنوعات من أدلة وحدانيته وآيات ربوبيته . ولهذا قال : ( لقوم يعقلون ) ليعتبروا ما فيها من الأدلة والحجج ؛ إذ من لا يعقل جهة الحكمة في خلق هذه الأشياء : مم خلقت ، ولماذا خلقت ؟ وما الحكمة فيها ؟ يستوي{[1907]} عليه خلقها وغير خلقها .

ثم فيه دلالة أن ما خلق من السماوات والأرض والليل والنهار والرياح والسحاب ، خلقها ليدلهم على وحدانيته وربوبيته ، وجعلها مسخرة مذللة لهم ، وبالله التوفيق .


[1883]:- من ط ع، في الأصل و م: منافعا.
[1884]:- - في النسخ الثلاث: لبعد.
[1885]:- في النسخ الثلاث: منافعا.
[1886]:-في النسخ الثلاث: وفيه.
[1887]:- في النسخ الثلاث: محدث، والثاني.
[1888]:- في النسخ الثلاث: وإلا.
[1889]:- في النسخ الثلاث: وفيه.
[1890]:- من ط ع و ط م: ساقطة من الأصل.
[1891]:- في م: البداء، في ط ع: البنوء.
[1892]:- ساقطة من م.
[1893]:- من ط ع، في الأصل و م: وقيل.
[1894]:- في الأصل: لزوال به موضوع، في ط ع و م: الزوال به موضع.
[1895]:- في النسخ الثلاث: وهو.
[1896]:- عفج يعفج: ضرب.
[1897]:- في النسخ الثلاث: وبما.
[1898]:- في ط ع: وفيه.
[1899]:- في النسخ الثلاث: ذا.
[1900]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1901]:- ساقطة من ط ع.
[1902]:- في النسخ: لطافتها ورقتها.
[1903]:- في ط ع: عرفه.
[1904]:- في النسخ الثلاث: أنها.
[1905]:- في النسخ الثلاث: ومما
[1906]:- في ط ع: اتفاق.
[1907]:- في م: لا يستوي.