استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد والتذكير بأن الحذر لا يؤخر الأجل ، وأن الجبان قد يلقى حتفه في مظنة النجاة . وقد تقدم أن هذه السورة نزلت في مدة صلح الحديبية وأنها تمهيد لفتح مكة ، فالقتال من أهم أغراضها ، والمقصود من هذا الكلام هو قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } الآية . فالكلام رجوع إلى قوله : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [ البقرة : 216 ] وفصلت بين الكلامين الآيات النازلة خلالهما المفتتحة ب { يسألونك } [ البقرة : 217 ، 219 ، 220 ، 222 ] .
وموقع { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } قبل قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } موقع ذكر الدليل قبل المقصود ، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد كقول علي رضي الله عنه في بعض خطبه لما بلغه استيلاء جند الشام على أكثر البلاد ، إذ افتتح الخطبة فقال : « ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها أنبئت بُسْراً هو ابن أبي أرطأة من قادة جنود الشام قد اطلع اليمن ، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم » فقوله : « ما هي إلا الكوفة » موقعه موقع الدليل على قوله : « لأظن هؤلاء القوم إلخ » وقال عيسى بن طلحة لما دخل على عروة بن الزبير حين قطعت رجل « ما كنا نعدك للصراع ، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك : أبقى لنا سمعك ، وبصرك ، ولسانك ، وعقلك ، وإحدى رجليك » فقدم قوله : ما كنا نعدك للصراع ، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة قبل ذكر الدعوى تشويقاً للدعوى ، أو حملاً على التعجيل بالامتثال .
واعلم أن تركيب ( ألم تر إلى كذا ) إذا جاء فعل الرؤية فيه متعدياً إلى ما ليس من شأن السامع أن يكون رآه ، كان كلاماً مقصوداً منه التحريض على علم ما عدي إليه فعل الرؤية ، وهذا مما اتفق عليه المفسرون ولذلك تكون همزة الاستفهام مستعملة في غير معنى الاستفهام بل في معنى مجازي أو كنائي ، من معاني الاستفهام غير الحقيقي ، وكان الخطاب به غالباً موجهاً إلى غير معين ، وربما كان المخاطب مفروضاً متخيلاً .
ولنا في بيان وجه إفادة هذا التحريض من ذلك التركيب وجوه ثلاثة :
الوجه الأول : أن يكون الاستفهام مستعملاً في التعجب أو التعجيب ، من عدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية ، ويكون فعل الرؤية علمياً من أخوات ظن ، على مذهب الفراء وهو صواب ؛ لأن إلى ولام الجر يتعاقبان في الكلام كثيراً ، ومنه قوله تعالى : { والأمر إليك } [ النمل : 33 ] أي لك وقالوا : { أحمد الله إليك } كما يقال : { أحمد لك الله } والمجرور بإلى في محل المفعول الأول ، لأن حرف الجر الزائد لا يطلب متعلقاً ، وجملة { وهم ألوف } في موضع الحال ، سادة مسد المفعول الثاني ، لأن أصل المفعول الثاني لأفعال القلوب أنه حال ، على تقدير : ما كان من حقهم الخروج ، وتفرع على قوله : { وهم ألوف } قوله : { فقال لهم الله موتوا } فهو من تمام معنى المفعول الثاني أو تجعل ( إلى ) تجريداً لاستعارة فعل الرؤية لمعنى العلم ، أو قرينة عليها ، أو لتضمين فعل الرؤية معنى النظر ، ليحصل الادعاء أن هذا الأمر المدرك بالعقل كأنه مدرك بالنظر ، لكونه بين الصدق لمن علمه ، فيكون قولهم : { ألم تر إلى كذا } في قوله : جملتين : ألم تعلم كذا وتنظر إليه .
الوجه الثاني : أن يكون الاستفهام تقريرياً فإنه كثر مجيء الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية ، مثل : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 106 ] . والقول في فعل الرؤية وفي تعدية حرف ( إلى ) نظير القول فيه في الوجه الأول .
الوجه الثالث : أن تجعل الاستفهام إنكارياً ، إنكاراً لعدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية والرؤية علمية ، والقول في حرف ( إلى ) نظير القول فيه على الوجه الأول ، أو أن تكون الرؤية بصرية ضمن الفعل معنى تنظر على أن أصله أن يخاطب به من غفل عن النظر إلى شيء مبصر ويكون الاستفهام إنكارياً : حقيقة أو تنزيلاً ، ثم نقل المركب إلى استعماله في غير الأمور المبصرة فصار كالمثل ، وقريب منه قول الأعشى :
* ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه *
واستفادة التحريض ، على الوجوه الثلاثة إنما هي من طريق الكناية بلازم معنى الاستفهام لأن شأن الأمر المتعجب منه أو المقرر به أو المنكور علمه ، أن يكون شأنه أن تتوافر الدواعي على علمه ، وذلك مما يحرض على علمه .
واعلم أن هذا التركيب جرى مجرى المثل في ملازمته لهذا الأسلوب ، سوى أنهم غيروه باختلاف أدوات الخطاب التي يشتمل عليها من تذكير وضده ، وإفراد وضده ، نحو ألم ترَيْ في خطاب المرأة وألم تريا وألم تروا وألم ترين ، في التثنية والجمع هذا إذا خوطب بهذا المركب في أمر ليس من شأنه أن يكون مبصراً للمخطاب أو مطلقاً .
وقد اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ، والأظهر أنهم قوم خرجوا خائفين من أعدائهم فتركوا ديارهم جبناً ، وقرينة ذلك عندي قوله تعالى : { وهم ألوف } فإنه جملة حال وهي محل التعجيب ، وإنما تكون كثرة العدد محلاً للتعجيب إذا كان المقصود الخوف من العدو ، فإن شأن القوم الكثيرين ألا يتركوا ديارهم خوفاً وهلعاً والعرب تقول للجيش إذا بلغ الألوف فقيل هم من نبي إسرائيل خالفوا على نبي لهم في دعوته إياهم للجهاد ، ففارقوا وطنهم فراراً من الجهاد ، وهذا الأظهر ، فتكون القصة تمثيلاً لحال أهل الجبن في القتال ، بحال الذين خرجوا من ديارهم ، بجامع الجبن وكانت الحالة الشبه بها أظهر في صفة الجبن وأفظع ، مثل تمثيل حال المتردد في شيء بحال من يقدم رجلاً ويؤخر أخرى ، فلا يقال إن ذلك يرجع إلى تشبيه الشيء بمثله ، وهذا أرجح الوجوه لأن أكثر أمثال القرآن أن تكون بأحوال الأمم الشهيرة وبخاصة بني إسرائيل .
وقيل هم من قوم من بني إسرائيل من أهل داوردان قرب واسط{[189]} وقع طاعون ببلدهم فخرجوا إلى واد أفيح فرماهم الله بداء موت ثمانية أيام ، حتى انتفخوا ونتنت أجسامهم ثم أحياها . وقيل هم من أهل أذرعات ، بجهات الشام . واتفقت الروايات كلها على أن الله أحياهم بدعوة النبي حزقيال بن بوزى{[190]} فتكون القصة استعارة شبه الذين يجبنون عن القتال بالذين يجبنون من الطاعون ، بجامع خوف الموت ، والمشبهون يحتمل أنهم قوم من المسلمين خامرهم الجبن لما دُعوا إلى الجهاد في بعض الغزوات ، ويحتمل أنهم فريق مفروض وقوعه قبل أن يقع ، لقطع الخواطر التي قد تخطر في قلوبهم .
وفي « تفسير ابن كثير » عن ابن جريج عن عطاء أن هذا مثل لا قصة واقعة ، وهذا بعيد يبعده التعبير عنهم بالموصول وقوله : { فقال لهم الله } . وانتصب { حذر الموت } على المفعول لأجله ، وعامله { خرجوا } .
والأظهر أنهم قوم فروا من عدوهم ، مع كثرتهم ، وأخلوا له الديار ، فوقعت لهم في طريقهم مصائب أشرفوا بها على الهلاك ، ثم نجوا ، أو أوبئة وأمراض ، كانت أعراضها تشبه أعراض الموت ، مثل داء السكت ثم برئوا منها فهم في حالهم تلك مثَل قول الراجز :
وخارجٍ أَخرجه حب الطمع *** فَرَّ من الموت وفي الموت وقع
ويؤيد أنها إشارة إلى حادثةٍ وليست مثلاً قولُه : { إن الله لذو فضل على الناس } الآية ويؤيد أن المتحدث عنهم ليسوا من بني إسرائيل قوله تعالى بعد هذه { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى } [ البقرة : 246 ] والآية تشير إلى معنى قوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت } [ النساء : 78 ] وقوله { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } [ آل عمران : 154 ] .
فأما الذين قالوا إنهم قوم من بني إسرائيل أحياهم الله بدعوة حزقيال ، والذين قالوا إنما هذا مثَل لا قصةٌ واقعةٌ ، فالظاهر أنهم أرادوا الرؤيا التي ذكرت في كتاب حزقيال في الإصحاح 37 منه إذ قال : « أخرجَني روحُ الرب وأنزلني في وسط بقعة ملآنة عظاماً ومرَّ بي من حولها وإذا هي كثيرة ويابسة فقال لي يابن آدم أتحيا هذه العظام ؟ فقلت يا سيدي أنت تعلم ، فقال لي تنبأْ على هذه العظام وقُل لها أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب ، فتقاربت العظام ، وإذا بالعصَب واللحم كساها وبُسط الجلدُ عليها من فوق وليس فيها روح فقال لي تنبأْ للروح وقل قال الرب هلم يا روح من الرياح الأربعِ وهِبِّ على هؤلاء القتلى فتنبأْتُ كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيُوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً جداً » وهذا مثل ضربهُ النبي لاستماتة قومه ، واستسلامهم لأعدائهم ، لأنه قال بعده « هذه العظام وهي كل بيوت إسرائيل هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا فتنبأْ وقل لهم قال السيد الرب هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم منها يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل وأجعل روحي فيكم فتحيَوْن » فلعل هذا المثل مع الموضع الذي كانت فيه مرائي هذا النبي ، وهو الخابور ، وهو قرب واسط ، هو الذي حدا بعض أهل القصص إلى دعوى أن هؤلاء القوم من أهل دَاوَرْدَان : إذ لعل دَاوَرْدَان كانت بجهات الخابور الذي رأى عنده النبي حزقيال ما رأى .
وقوله تعالى : { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } القَولُ فيه إما مجاز في التكوين والموت حقيقة أي جعل فيهم حالة الموت ، وهي وقوف القلب وذهاب الإدراك والإحساس ، استعيرت حالة تلقي المكوَّن لأثر الإرادة بتلقي المأمور للأمر ، فأطلق على الحالة المشبهة المركبُ الدال على الحالة المشبَّه بها على طريقة التمثيل ، ثم أحياهم بزوال ذلك العارض فعلموا أنهم أصيبوا بما لو دام لكان موتاً مستمراً ، وقد يكون هذا من الأدواء النادرة المشْبِهة داء السكت وإما أن يكون القول مجازاً عن الإنذار بالموت ، والموتُ حقيقة ، أي أراهم الله مهالك شموا منها رائحة الموت ، ثم فرج الله عنهم فأحياهم . وإما أن يكون كلاماً حقيقياً بوحي الله ، لبعض الأنبياء ، والموتُ موت مجازي ، وهو أمر للتحقير شتماً لهم ، ورَماهم بالذل والصغار ، ثم أحياهم ، وثبتَ فيهم روح الشجاعة .
والمقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن ، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت ، فهؤلاء الذين ضُرب بهم هذا المثلُ خرجوا من ديارهم خائفين من الموت ، فلم يغن خوفهم عنهم شيئاً ، وأراهم الله الموت ثم أحياهم ، ليصير خُلُق الشجاعة لهم حاصلاً بإدراك الحس . ومحل العبرة من القصة هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه ، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئاً ، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت ، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله ، كما قال تعالى : { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } [ الأحزاب : 16 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ألم تر": ألم تعلم، يا محمد، وهو من رؤية القلب لا رؤية العين، لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر، ورؤية القلب : ما رآه، وعلمه به. فمعنى ذلك: ألم تعلم يا محمد، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وهم ألوف"؛ فقال بعضهم: في العدد، بمعنى جماع ألف... عن ابن عباس: كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من الطاعون، قالوا: نأتي أرضا ليس فيها موت! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله: "موتوا". فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم، فتلا هذه الآية: "إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ".
وقال آخرون: معنى قوله: "وهم ألوف "وهم مؤتلفون. وأولى القولين في تأويل قوله: "وهم ألوف "بالصواب، قول من قال: عنى بالألوف كثرة العدد، دون قول من قال: عنى به الائتلاف، بمعنى ائتلاف قلوبهم، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض، ولكن فرارا: إما من الجهاد، وإما من الطاعون لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين.
وأولى الأقوال- في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم- بالصواب، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف، دون من حده بأربعة آلاف، وثلاثة آلاف، وثمانية آلاف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم: ألوف. وإنما يقال: هم آلاف، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال: هم خمسة ألوف، أو عشرة ألوف.
وإنما جمع قليله على أفعال، ولم يجمع على أفعُل مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا للألف التي في أوله. "حذر الموت": أنهم خرجوا من حذر الموت، فرارا منه... عن ابن عباس قوله: "حذر الموت"، فرارا من عدوهم، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه. فأمرهم فرجعوا، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وهم الذين قالوا لنبيهم: "ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية، على المواظبة على الجهاد في سبيله، والصبر على قتال أعداء دينه. وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه، دون خلقه وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء، إلى التحصن في الحصون، والاختباء في المنازل والدور، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته، كما لم ينفع الهاربين من الطاعون، الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت" فرارهم من أوطانهم، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة، وبالموئل النجاة من المنية، حتى أتاهم أمر الله، فتركهم جميعا خمودا صرعى، وفي الأرض هلكى، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء.
"إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ": إن الله لذو فضل ومن على خلقه، بتبصيره إياهم سبيل الهدى، وتحذيره لهم طرق الردى، وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم، وأنفسهم وأموالهم- كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم، عبرة يعتبرون بهم، وليعلموا أن الأمور كلها بيده، فيستسلموا لقضائه، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه.
ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة، ويمن عليه بمننه الجسيمة، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره، ويتخذ إلها من دونه، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه، ومن الحمد ما يثقله، فقال تعالى ذكره: "ولكن أكثر الناس لا يشكرون": لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم، وفضلي الذي تفضلت به عليهم، بعبادتهم غيري، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ألم تر}؛ حروف تعجيب وتنبيه ليتأمل في ما يلقى إليه مما أريد الإنباء عنه أو في ما قد سبق الإنباء عنه ليتجدد بالنظر فيه عهدا. وعلى ذلك المعروف من استعمال هذه الكلمة، وكذلك وجه تأويله إلى الخبر مرة وإلى العلم به ثانيا وإلى النظر فيه ثالثا على اختلاف ما قيل، وفيه كل ذلك، والله [تعالى أعلم].
[وقوله: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}: قوله]: {ألم تر} ألم تخبر، [وألم تنظر، مثل] هذا إنما يقال عن أعجوبة فالقصة فيه، والله تعالى أعلم، جواب قوله: {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} [آل عمران: 156] أخبرهم الله عز وجلا عن قصة هؤلاء أن جهلهم بآجال أولئك حملهم على [هذا القول مثل جهل بني إسرائيل حملهم على] الخروج {من ديارهم وهم ألوف حذر الموت} ثم لم ينفعهم ذلك، بل أميتوا، وكذلك هذا... [فإن كان ذلك في الفرار من الجهاد] فله نظير في الآيات: قوله تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} [آل عمران: 154]، وقوله: {قل لن ينفعكم الفرار [إن فررتم من الموت أو القتل}] [الأحزاب: 16]، وقوله: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه مالقيكم} [الجمعة: 8]، [وقوله: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}] [النساء: 78]، ومثله كثير في القرآن. وإن كانت [القصة] في الطاعون فقد جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن كنتم في أرض، وفيها وباء، فلا تخرجوا منها) [أحمد 1/192] وأن الفرار أنجاهم إن لم يكونوا فيها، فدخلوا، فأصابهم، فأماتهم الله، يظنون أنهم إذا لم يكونوا فيها لم يصيبهم ذلك. [ف] في الوجهين نسيان القضاء، وقد جاء أن (لا عدوى ولا هامة) [البخاري: 5705]...
وقوله: {إن الله لذو فضل على الناس} حين أحياهم بعدما أماتهم، وذلك فضل منه، وذو {فضل على الناس} بكل نعمة أنعمها عليهم ليستحق الشكر من الخلق بذلك... وبالله التوفيق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمّا استبعدوا قدرة الله في الإعادة، أراهم في أنفسهم عياناً، ثم لم ينفع إظهار ذلك لِمَنْ لم يشحذ بصيرته في التوحيد. ومن قويت بصيرته لم يضره عدم تلك المشاهدات، فإنهم تحققوا بما أُخْبِرُوا، لِمَا آمنوا به بالغيب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَلَمْ تَرَ} تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأوّلين، وتعجيب من شأنهم.
فإن قلت: ما معنى قوله: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ}؟ قلت: معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]. وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وأنّ الموت إذا لم يكن منه بدٌّ ولم ينفع منه مفر، فأولى أن يكون في سبيل الله. {لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} حيث يبصرهم ما يعتبرون به ويستبصرون، كما بصر أولئك، وكما بصركم باقتصاص خبرهم. أو لذو فضل على الناس حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم البعث. والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذه الآية تحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل، أي فيجب أن يشكر الناس فضل الله في إيجاده لهم ورزقه إياهم وهدايته بالأوامر والنواهي، فيكون منهم الجري إلى امتثالها لا طلب الخروج عنها، وتخصيصه تعالى الأكثر دلالة على الأقل الشاكر.
اعلم أن عادته تعالى في القرآن أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص ليفيد الاعتبار للسامع، ويحمله ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد، ومزيد الخضوع والانقياد فقال: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} اعلم أن الرؤية قد تجيء بمعنى رؤية البصيرة والقلب، وذلك راجع إلى العلم، كقوله: {وأرنا مناسكنا} معناه: علمنا، وقال: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} أي علمك، ثم إن هذا اللفظ قد يستعمل فيما تقدم للمخاطب العلم به، وفيما لا يكون كذلك... فيكون هذا ابتداء تعريف، فعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية، ويجوز أن نقول: كان العلم بها سابقا على نزول هذه الآية، ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية على وفق ذلك العلم. هذا الكلام ظاهره خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد هو وأمته، إلا أنه وقع الابتداء بالخطاب معه، كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}. دخول لفظة {إلى} في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين} يحتمل أن يكون لأجل أن {إلى} عندهم حرف للانتهاء كقولك: من فلان إلى فلان، فمن علم بتعليم معلم، فكأن ذلك المعلم أوصل ذلك المتعلم إلى ذلك المعلوم وأنهاه إليه، فحسن من هذا الوجه دخول حرف {إلى} فيه، ونظيره قوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل}.
أما قوله تعالى: {فقال لهم الله موتوا} ففي تفسير {قال الله} وجهان الأول: أنه جار مجرى قوله: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وقد تقدم أنه ليس المراد منه إثبات قول، بل المراد أنه تعالى متى أراد ذلك وقع من غير منع وتأخير، ومثل هذا عرف مشهور في اللغة، ويدل عليه قوله: {ثم أحياهم} فإذا صح الإحياء بالقول، فكذا القول في الإماتة.
أما قوله تعالى: {إن الله لذو فضل على الناس} ففيه وجوه؛
أحدها: أنه تفضل على أولئك الأقوام الذين أماتهم بسبب أنه أحياهم، وذلك لأنهم خرجوا من الدنيا على المعصية، فهو تعالى أعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي.
وثانيها: أن العرب الذين كانوا ينكرون المعاد كانوا متمسكين بقول اليهود في كثير من الأمور، فلما نبه الله تعالى اليهود على هذه الواقعة التي كانت معلومة لهم، وهم يذكرونها للعرب المنكرين للمعاد، فالظاهر أن أولئك المنكرين يرجعون من الدين الباطل الذي هو الإنكار إلى الدين الحق الذي هو الإقرار بالبعث والنشور فيخلصون من العقاب، ويستحقون الثواب، فكان ذكر هذه القصة فضلا من الله تعالى وإحسانا في حق هؤلاء المنكرين
وثالثها: أن هذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد، فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان، وتزيل عن قلبه الخوف من الموت، فكان ذكر هذه القصة سببا لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة التي بها يفوز بالثواب العظيم، فكان ذكر هذه القصة فضلا وإحسانا من الله تعالى على عبده،
{ولكن أكثر الناس لا يشكرون} وهو كقوله: {فأبى أكثر الناس إلا كفورا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انقضى ما لا بد منه مما سيق بعد الإعلام بفرض القتال المكروه للأنفس من تفصيل ما أجمل في ليل الصيام من المشارب والمناكح وما تبعها وكان الطلاق كما سلف كالموت وكانت المراجعة كالإحياء وختم ذلك بالصلاة حال الخوف الذي أغلب صورة الجهاد ثم بتبيين الآيات أعم من أن تكون في الجهاد أو غيره، عقب ذلك بقوله دليلاً على آية كتب القتال المحثوث فيها على الإقدام على المكاره لجهل المخلوق بالغايات: {ألم تر}.
قال الحرالي: لما كان أمر الدين مقاماً بمعالمه الخمس التي إقامة ظاهرها تمام في الأمة وإنما تتم إقامتها بتقوى القلوب وإخلاص النيات كان القليل من المواعظ والقصص في شأنه كافياً، ولما كان حظيرة الدين إنما هو الجهاد الذي فيه بذل الأنفس وإنفاق الأموال كثرت فيه مواعظ القرآن و ترددت وعرض لهذه الأمة بإعلام بما يقع فيه فذكر ما وقع من الأقاصيص في الأمم السالفة وخصوصاً أهل الكتابين بني إسرائيل ومن لحق بهم من أبناء العيص فكانت وقائعهم مثلاً لوقائع هذه الأمة فلذلك أحيل النبي صلى الله عليه وسلم على استنطاق أحوالهم بما يكشفه الله سبحانه وتعالى له من أمرهم عياناً وبما ينزله من خبرهم بياناً وكان من جامعة معنى ذلك ما تقدم من قوله سبحانه وتعالى: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} [البقرة: 211] وكان من جملة الآيات التي يحق الإقبال بها على النبي صلى الله عليه وسلم لعلو معناها فأشرف المعاني ما قيل فيه {ألم تر} إقبالاً على النبي صلى الله عليه وسلم وعموم المعاني ما قيل فيه {ألم تروا} [لقمان: 20] إقبالاً على الأمة ليخاطب كل على قدر ما قدم لهم من تمهيد موهبة العقل لتترتب المكسبة من العلم على مقدار الموهبة من العقل فكان من القصص العلي العليم اللطيف الاعتبار ما تضمنته هذه الآيات من قوله: {ألم تر} ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة حتى لا يفروا من الموت فرار من قبلهم، قال عليه الصلاة والسلام:"إذا نزل الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" وذلك لتظهر مزيتهم على من قبلهم بما يكون من عزمهم كما أظهر الله تعالى مزيتهم على من قبلهم بما آتاهم من فضله ورحمته التي لم ينولها لمن قبلهم...
ولما كانت مفارقة الأوطان مما لا يسمح به نبه بذكره على عظيم ما دهمهم فقال: {إلى الذين خرجوا} أي ممن تقدمكم من الأمم {من ديارهم} التي ألفوها وطال ما تعبوا حتى توطنوها لما وقع فيها مما لا طاقة لهم به على الموت {وهم ألوف} أي كثيرة جداً تزيد على العشرة بما أفهمه جمع التكثير. قال الحرالي: فيه إشعار بأن تخوفهم لم يكن من نقص عدد وإنما كان من جزع أنفس فأعلم سبحانه وتعالى أن الحذر لا ينجي من القدر وإنما ينجى منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء "إن الدعاء ليلقي القدر فيعتلجان إلى يوم القيامة"...
{حذر الموت} فراراً من طاعون وقع في مدينتهم أو فراراً من عدو دعاهم نبيهم إلى قتاله -على اختلاف الرواية- ظناً منهم أن الفرار ينجيهم. ودل سبحانه وتعالى على أن موتهم كان كنفس واحدة بأن جعلهم كالمأمور الذي لم يمكنه التخلف عن الامتثال بقوله مسبباً عن خروجهم على هذا الوجه: {فقال لهم الله} أي الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه طالب لأن له الكمال كله {موتوا} أي فماتوا أجمعون موت نفس واحدة لم ينفعهم حذرهم ولا صد القدر عنهم علمهم بالأمور وبصرهم إعلاماً بأن من هاب القتال حذر الموت لم يغنه حذره مع ما جناه من إغضاب ربه ومن أقدم عليه لم يضره إقدامه مع ما فاز به من مرضاة مولاه.
قال الحرالي: في إشعاره إنباء بأن هذه الإماتة إماتة تكون بالقول حيث لم يقل: فأماتهم الله، فتكون إماتة حاقة لا مرجع منها، ففيه إبداء لمعنى تدريج ذات الموت في أسنان متراقية من حد ضعف الأعضاء والقوى بالكسل إلى حد السنة إلى حد النوم إلى حد الغشي إلى حد الصعق إلى حد هذه الإماتة بالقول إلى حد الإماتة الآتية على جملة الحياة التي لا ترجع إلا بعد البعث وكذلك الإماتة التي يكون عنها تبدد الجسم مع بقائه على صورة أشلائه أشد إتياناً على الميت من التي لا تأتي على أعضائه "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين "فكما للحياة أسنان من حد ربو الأرض إلى حد حياة المؤمن إلى ما فوق ذلك من الحياة كذلك للموت أسنان بعدد أسنان الحياة مع كل سن حياة موت إلى أن ينتهي الأمر إلى الحي الذي لا يموت {وإن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42]، فبذلك يعلم ذو الفهم أن ذلك توطئة لقوله: {ثم أحياهم} وفي كلمة {ثم} إمهال إلى ما شاء الله...
وجعل سبحانه وتعالى ذلك تقريراً له صلى الله عليه وسلم بالرؤية إما لأنه كشف له عنهم في الحالتين وإما تنبيهاً على أنه في القطع بإخبار الله تعالى له على حالة هي كالرؤية لغيره تدريباً لأمته؛ ولعل في الآية حضاً على التفضل بالمراجعة من الطلاق كما تفضل الله على هؤلاء بالإحياء بعد أن أدبهم بالإماتة وختم ما قبلها بالإقامة في مقام الترجي للعقل فيه إشارة إلى أن الخارجين من ديارهم لهذا الغرض سفهاء فكأنه قيل: لتعقلوا فلا تكونوا كهؤلاء الذين ظنوا أن فرارهم ينجيهم من الله بل تكونون عالمين بأنكم أينما كنتم ففي قبضته وطوع مشيئته وقدرته فيفيدكم ذلك الإقدام على ما كتب عليكم مما تكرهونه من القتال،
أو يقال: ولما كان المتوفى قد يطلق زوجه في مرض موته فراراً من إرثها وقد يخص بعض وارثيه مما يضار به غيره وقد يحتال على المطلقة ضراراً بما يمنع حقها ختم آية الوفاة عن الأزواج والمطلقات بترجية العقل بمعنى أنكم إذا عقلتم لم تمنعوا أحداً من فضل الله الذي آتاكم علماً منكم بأنه تعالى قادر على أن يمنع المراد إعطاؤه ويمنح المراد منعه بأسباب يقيمها ودواعي يخلقها أو يشفي فاعل ذلك من مرضه ثم يسلبه فضله فيفقره بعد غناه ويضعفه بعد قواه، فإنه لا ينفع من قدره حذر، ولا يدفع مراده كيد ولا حيل وإن كثر العدد وجل المدد،
{ألم تر} إلى أن قال: {إن الله} أي الذي له الإحاطة بالجلال والإكرام {لذو فضل} {على الناس} أي عامة فليذكر كل واحد ما له عليه من الفضل، وليرغبوا في العفو عمن يرون أن منعه عدل لأن ذلك أقرب إلى الشكر وأبعد عن الكفر، فطلاق الفار إخراج الزوجة عن دائرة عصمته حذراً من إماتة ماله بأخذ ما يخصها منه وخروج الزوج عن دائرة النكاح حذراً من موت مقيد بكونها في عصمته وخروج الألوف من دار الإقامة حذراً من موت مطلق، ومن المناسبات البديعة أنه لما كانت حقيقة حال العرب أنهم انتقلوا بعد أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام والتابعين له بإحسان من ضيق دار العلم والإيمان حذراً من هلاك الأبدان بتكاليف الأديان إلى قضاء الشهوات والعصيان فوقعوا في موت الجهل والكفران فلما نزل عليهم القرآن وكان أكثر هذه السورة في الرد على أهل الكتاب وكرر فيها هداية العرب من الكفر والجهل بكلمة الإطماع في غير موضع نحو (ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} [البقرة: 150] {لعلكم تتقون} [البقرة: 21] {لعلهم يرشدون} [البقرة: 186] {لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} [البقرة: 219، 220] وغير ذلك إلى أن ختم هذه؟؟لآيات بترجي العقل وكان أهل الكتاب قد اشتد حسدهم لهم بجعل النبي الذي كانوا ينتظرونه منهم وكان الحاسد يتعلق في استبعاد الخير عن محسوده بأدنى شيء كانوا كأنهم قالوا: أ يحيي هؤلاء العرب على كثرتهم وانتشارهم في أقطار هذه الجزيرة من موت الكفر والجهل بالإيمان والعلم بعد أن تمادت بهم فيهما الأزمان وتوالت عليهم الليالي والأيام حتى عتوا فيهما وعسوا ومردوا عليهما وقسوا؟ فأجيبوا بنعم وما استبعدتموه غير بعيد، فقالوا: فإن كان لله بهم عناية فلم تركهم يجهلون ويكفرون بعد ما شرع لهم أبوهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام دين أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ فأجيبوا بأنه فعل بهم ذلك لذنب استحقوه لحكمة اقتضاها سابق علمه ثم ذكّرهم قدرته في مثل ذلك من العقوبة واللطف بما هم به عالمون فقال تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم والمراد هم -كما يقال: الكلام لك واسمعي يا جارة- {ألم تر}
ويجوز أن يكون الخطاب لكل فاهم أي تعلم بقلبك أيها السامع علماً هو كالرؤية ببصرك لما تقدم من الأدلة التي هي أضوأ من الشمس على القدرة على البعث ويؤيد أنه لمح فيه الإبصار تعديته ب"إلى" في قوله: {إلى الذين خرجوا} وقال: {فقال لهم الله} أي الذي له العظمة كلها عقوبة لهم بفرارهم من أمره {موتوا ثم أحياهم} بعد أن تطاول عليهم الأمد وتقادم بهم الزمن كما أفهمه العطف بحرف التراخي تفضلاً منه، فكما تفضل على أولئك بحياة أشباههم بعد عقوبتهم بالموت فهو يتفضل على هؤلاء بحياة أرواحهم من موت الكفر والجهل إظهاراً لشرف نبيهم صلى الله عليه وسلم، ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي له العظمة كلها بما له من الجلال والعظمة والكمال {لذو فضل} أي عظيم {على الناس} أي كافة مطيعهم وعاصيهم.
قال الحرالي: بما ينسبهم تارة إلى أحوال مهوية ثم ينجيهم منها إلى أحوال منجية بحيث لو أبقى هؤلاء على هذه الإماتة ومن لحق بسنتهم من بعدهم لهلكت آخرتهم كما هلكت دنياهم ولكن الله سبحانه وتعالى أحياهم لتجدد فضله عليهم... كما تفضل عليكم يا بني إسرائيل بأن أحياكم من موت العبودية وذلك الذل بعد أن كان ألزمكموه بذنوبكم دهوراً طويلة وكما تفضل عليكم أيها العرب بقص مثل هذه الأخبار عليكم لتعتبروا
{ولكن أكثر الناس} كرر الإظهار ولم يضمر ليكون أنص على العموم لئلا يدعي مدع أن المراد بالناس الأول أهل زمان ما فيخص الثاني أكثرهم
{لا يشكرون *} وذلك تعريض ببني إسرائيل في أنهم لم يشكروه سبحانه وتعالى في الوفاء بمعاهدته لهم في اتباع هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي هذا الأسلوب بعد هذه المناسبات إثبات لقدرته سبحانه وتعالى على الإعادة وجرّ لمنكر ذلك إلى الحق من حيث لا يشعر.
قال الحرالي: والشكر ظهور باطن الأمر على ظاهر الخلق بما هو باطن فمن حيث إن الأمر كله لله قسراً فالشكر أن يبدو الخلق كله بالله شكراً، لأن أصل الشكور الدابة التي يظهر عليها ما تأكله سمناً وصلاحاً، فمن أودع خلق أمر لم يبد على خلقه فهو كفور.
فلما أودعه سبحانه وتعالى في ذوات الأشياء من معرفته وعلمه وتكبيره كان من لم يبد ذلك على ظاهر خلقه كفوراً، ومن بدا ما استتر فيه من ذلك [كان] شكوراً، وليس من وصف الناس ذلك لترددهم بين أن يكون البادي عليهم عندهم تارة من الله سبحانه وتعالى وتارة من أنفسهم وممن دون الله ممن اتخذوه أولياء على حد كفر أو هوى أو بدعة أو خطيئة وعلى حد رين كسبهم على قلوبهم، ففي اعتبار هذه الآية تحذير لهذه الأمة من أن يحذروا الموت.
قال بعض التابعين رضي الله تعالى عنهم: لقد رأينا أقواماً يعنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت إلى أحدهم أشهى من الحياة عندكم اليوم؛ وإنما ذلك لما تحققوا من موعود الآخرة حتى كأنهم يشاهدونه فهان عليهم الخروج من خراب الدنيا إلى عمارة آخرتهم...
وما أحسن الرجوع إلى قصص الأقدمين والالتفات إلى قوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [البقرة: 216] على هذا الوجه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما ذكر تعالى من الأحكام ما ذكر في الآيات السابقة قفى عليه بذكر بعض أخبار الماضين لأجل العظة والاعتبار، بما تتضمنه الوقائع والآثار، كما هي سنة القرآن، في تنويع التذكير والبيان، بل الانتقال هنا إنما هو من الأحكام مسرودة مع بيان حكمتها، والتنبيه لفائدتها، إلى حكم سبقته حكمته، وتقدمت فائدته، في ضمن واقعة مضت زيادةً في البصيرة ومبالغةً في الحَمْل على الاعتبار، وهو حكم القتال في سبيل الله، ويتلوه حكم بذل المال في سبيله. الأحكام تتعلق بالأشخاص في أنفسهم وبيوتهم، وهذان الحكمان في أمر عام يتعلق بالأمم من حيث حفظ وجودها، ودوام استقلالها، بمدافعة المعتدين عنها، وبذل الروح والمال في حفظ مصالحها، وتوفير منافعها، ولذلك كان الأسلوب أشد تأثيرا، وأعظم تذكيرا لأن الإشارة في سياق التذكير بمنافع الشخص ومصالحه في نفسه وفيمن يتصل به، كافية للتذكر والعمل بما يوعظ به لموافقة ذلك لهواه، فلها من النفس عون لا يغيب ووازع لا يعصى، وأما المصالح العامة فإنه لا يفطن لها ولا يرغب فيها إلا الأقلون، فالعناية بالدعوة إليها، يجب أن تكون بمقدار بعد الجماهير عنها، فمن ثم جاءت هذه الآيات ببيان أجلى، وأسلوب أفعل وأقوى...
[فلقد] أطلق القرآن القول في هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ولم يعين عددهم ولا أمتهم ولا بلدهم ولو علم لنا خيرا في التعيين والتفصيل لتفضل علينا بذلك في كتابه المبين، فنأخذ القرآن على ما هو عليه لا ندخل فيه شيئا من الروايات الإسرائيلية التي ذكروها، وهي صارفة عن العبرة لا مزيد كمال فيها، والمتبادر من السياق أن أولئك القوم قد خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم، فقد كانوا ألوفا أي كثيرين، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلا سبب الموت بما يمكن الأعداء من رقاب أهله،
قال الأستاذ الإمام في قول (الجلال) إن الاستفهام بها استفهام تعجيب وتشويق: أي أن الاستفهام الحقيقي ممتنع من الله تعالى، ولذلك كان أكثر استفهام القرآن للإنكار أو التقرير. ولكن الاستفهام هنا لشيء آخر وهو ما يحدث العجب للنبي صلى الله عليه وسلم ويوجب الشوق له إلى ما يقص عليه، والمعنى ألم ينته علمك إلى حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم الخ والرؤية بمعنى العلم يمتنع أن تكون بصرية ولم يقل ألم تعلم للإشعار بأن الأمر المحكي عنه قد انتهى في الوضوح والتحقق إلى مرتبة المرئي.
أقول: ولا يشترط أن تكون القصة في مثل هذا التعبير واقعة بل يصح مثله في القصص التمثيلية، إذ يراد أن من شأن مثلها في وضوحه أن يكون معلوما حتى كأنه مرئي بالعينين. ومنه ما نبهنا عليه من الفرق بين العطف بالفاء وبثم، وقد قالوا إن العطف في قوله تعالى (وقاتلوا) للاستئناف، لأن الجملة المبدوءة بالواو هنا جديدة لا تشارك ما قبلها في إعرابه ولا في حكمه الذي يعطيه العطف.
قال الأستاذ الإمام: وهذا لا يمنع أن يكون بين الجملة المبدوءة بواو الاستئناف وبين ما قبلها تناسب وارتباط في المعنى غير ارتباط العطف والمشاركة في الإعراب، كما هو الشأن هنا، فإن الآية بالأولى مبينة لفائدة القتال في الدفاع عن الحق أو الحقيقة، والثانية آمرة به بعد تقرير حكمته وبيان وجه الحاجة إليه، فالارتباط بينهما شديد الأواخي، لا يعتريه التراخي.
[لقد] خرجوا فارين {فقال لهم الله موتوا} أي أماتهم بإمكان العدو منهم، فالأمر أمر التكوين لا أمر التشريع أي قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أتوه من سبب الموت، وهو تمكين العدو المحارب من أقفائهم بالفرار، ففتك بهم وقتل أكثرهم. ولم يصرح بأنهم ماتوا لأن أمر التكوين عبارة عن مشيئته سبحانه فلا يمكن تخلفه وللاستغناء عن التصريح بقوله بعد ذلك {ثم أحياهم} وإنما يكون الإحياء بعد الموت. والكلام في القوم لا في أفراد لهم خصوصية، لأن المراد بيان سنته تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدافع العادين عليها، ومعنى حياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف. فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أمتهم، حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها. فكان من بقي من أفرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم، مدغمين في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم. ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم.
ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديبا لهم، ومطهرا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة. [ف] أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، حتى عادت لهم وحدتهم قوية فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال، فهذا معنى حياة الأمم وموتها يموت قوم منهم باحتمال الظلم، ويذل الآخرون حتى كأنهم أموات، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحية، من حفظ سياج الوحدة، وحماية البيضة، بتكافل أفراد الأمة ومنعتهم، فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت، ويتعلمون من فعل عدوهم بهم كيف يدفعونه عنهم.
(أقول): وإطلاق الحياة على الحالة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم والموت على مقابلها معهود كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال: 24) وقوله: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} (الأنعام: 122) الآية. وانظر إلى دقة التعبير في عطف الأمر بالموت على الخروج من الديار بالفاء الدالة على اتصال الهلاك بالفرار من العدو، وإلى عطفه الأخبار بإحيائهم بثم الدالة على تراخي ذلك وتأخيره، ولأن الأمة إذا شعرت بعلة البلاء بعد وقوعه بها وذهابه باستقلالها فإنه لا يتيسر لها تدارك ما فات إلا في زمن طويل، فما قرره الأستاذ الإمام هو ما يعطيه النظم البليغ وتؤيده السنن الحكيمة، وأما الموت الطبيعي فهو لا يتكرر كما علم من سنة الله ومن كتابه إذ قال {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} (الدخان: 56) وقال: {وأحييتنا اثنين} (النساء: 11)...
والله تعالى لا يأمرنا بالقتال لأجل أن نقتل ثم يحيينا بمعنى أنه يبعث من قتل منا بعد موتهم في هذه الحياة الدنيا. {إن الله لذو فضل على الناس} كافة بما جعل في موتهم من الحياة إذ جعل المصائب والعظائم، محيية للهمم والعزائم، كما جعل الهلع والجبن وغيرهم من الأخلاق التي أفسدها الترف والسرف من أسباب ضعف الأمم، وجعل ضعف أمة مغريا لأمة قوية بالوثبان عليها، والاعتداء على استقلالها، وجعل الاعتداء منبها للقوى الكامنة في المعتدى عليه، وملجئا له إلى استعمال مواهب الله فيما وهبت لأجله، حتى تحيا الأمم عزيزة، ويظهر فضل الله تعالى فيها.
قال الأستاذ الإمام: المراد بالفضل هنا الفضل العام وهو أنه تعالى جعل إماتة الناس بما يسلط على الأمة من الأعداء ينكلون بها بمثابة هدم البناء القديم المتداعي والضرورة قاضية ببناء، فلا جرم تنبعث الهمة إلى هذا البناء الجديد فيكون حياة جديدة للأمة، تفسد أخلاق الأمم فتسوء الأعمال، فيسلط الله على فاسدي الأخلاق النكبات ليتأدب الباقي منهم، فيجتهدوا في إزالة الفساد وإدالة الصلاح، ويكون ما هلك من الأمة بمثابة العضو الفاسد المصاب بالغنغرينا يبتره الطبيب ليسلم الجسد كله، ومن لا يقبل هذا التأديب الإلهي فإن عدل الله في الأرض يمحقه منها {وما للظالمين من أنصار} (البقرة: 270) فهذه سنة من سنن الاجتماع بينها القرآن وكان الناس في غفلة عنها ولهذا قال: {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} أي لا يقومون بحقوق هذه لنعمة، ولا يستفيدون من بيان هذه السنة، أي هذا شأن أكثر الناس في غفلتهم وجهلهم بحكمة ربهم، فلا تكونوا كذلك أيها المؤمنون بل اعتبروا بما نزل عليكم وتأدبوا به لتستفيدوا من كل حوادث الكون حتى مما ينزل بكم من البلاء إذا وقع منكم تفريط في بعض الشؤون، واعلموا أن الجبن عن مدافعة الأعداء، وتسليم الديار بالهزيمة والفرار، هو الموت المحفوف بالخزي والعار، وأن الحياة العزيزة الطيبة هي الحياة الملية المحفوظة من عدوان المعتدين، فلا تقصروا في حماية جماعتكم في الملة والذين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ندرك قيمة هذا الدرس وما يتضمنه من تجارب الجماعات السابقة والأمم الغابرة، حين نستحضر في أنفسنا أن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي؛ ورائدها الناصح؛ وأنه هو مدرستها التي تلقت فيها دروس حياتها. وأن الله -سبحانه- كان يربي به الجماعة المسلمة الأولى التي قسم لها إقامة منهجه الرباني في الأرض، وناط بها هذا الدور العظيم بعد أن أعدها له بهذا القرآن الكريم. وأنه -تعالى- أراد بهذا القرآن أن يكون هو الرائد الحي -الباقي بعد وفاة الرسول [ص] لقيادة أجيال هذه الأمة، وتربيتها، وإعدادها لدور القيادة الراشدة الذي وعدها به، كلما اهتدت بهديه، واستمسكت بعهدها معه، واستمدت منهج حياتها كله من هذا القرآن، واستعزت به واستعلت على جميع المناهج الأرضية. وهي بصفتها هذه، مناهج الجاهلية.! إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى.. ولكنه دستور شامل.. دستور للتربية، كما أنه دستور للحياة العملية، ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة موحية على الجماعة المسلمة التي جاء لينشئها ويربيها؛ وتضمن بصفة خاصة تجارب الدعوة الإيمانية في الأرض من لدن آدم- عليه السلام -وقدمها زادا للأمة المسلمة في جميع أجيالها. تجاربها في الأنفس، وتجاربها في واقع الحياة. كي تكون الأمة المسلمة على بينة من طريقها، وهي تتزود لها بذلك الزاد الضخم، وذلك الرصيد المتنوع.
ومن ثم جاء القصص في القرآن بهذه الوفرة، وبهذا التنوع، وبهذا الإيحاء.. وقصص بني إسرائيل هو أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم، لأسباب عدة... وهو أن الله- سبحانه -علم أن أجيالا من هذه الأمة المسلمة ستمر بأدوار كالتي مر فيها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل؛ فعرض عليها مزالق الطريق، مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة؛ ولترى صورتها في هذه المرآة المرفوعة لها بيد الله- سبحانه -قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق! إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي. وينبغي أن يتدبر على أنه توجيهات حية، تتنزل اليوم، لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل. لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل؛ أو على أنه سجل لحقيقة مضت ولن تعود! ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا؛ كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة..
وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد. وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق؛ وتقول لنا:هذا فافعلوه وهذا لا تفعلوه. وتقول لنا:هذا عدو لكم وهذا صديق. وتقول لنا:كذا فاتخذوا من الحيطة وكذا فاتخذوا من العدة. وتقول لنا حديثا طويلا مفصلا دقيقا في كل ما يعرض لنا من الشؤون.. وسنجد عندئذ في القرآن متاعا وحياة؛ وسندرك معنى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.. فهي دعوة للحياة.. للحياة الدائمة المتجددة. لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ.
هذا الدرس يعرض تجربتين من تجارب الأمم؛ يضمهما إلى ذخيرة هذه الأمة من التجارب؛ ويعد بهما الجماعة المسلمة لما هي معرضة له في حياتها من المواقف؛ بسبب قيامها بدورها الكبير، بوصفها وارثة العقيدة الإيمانية، ووارثة التجارب في هذا الحقل الخصيب.
[ف] الأولى تجربة لا يذكر القرآن أصحابها؛ ويعرضها في اختصار كامل، ولكنه واف. فهي تجربة جماعة {خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت}.. فلم ينفعهم الخروج والفرار والحذر؛ وأدركهم قدر الله الذي خرجوا حذرا منه.. فقال لهم الله: {موتوا}.. {ثم أحياهم}.. لم ينفعهم الجهد في اتقاء الموت، ولم يبذلوا جهدا في استرجاع الحياة. وإنما هو قدر الله في الحالين. وفي ظل هذه التجربة يتجه إلى الذين آمنوا يحرضهم على القتال، وعلى الإنفاق في سبيل الله، واهب الحياة. وواهب المال. والقادر على قبض الحياة وقبض المال.
والثانية تجربة في حياة بني إسرائيل من بعد موسى.. بعدما ضاع ملكهم، ونهبت مقدساتهم، وذلوا لأعدائهم، وذاقوا الويل بسبب انحرافهم عن هدي ربهم، وتعاليم نبيهم.. ثم انتفضت نفوسهم انتفاضة جديدة؛ واستيقظت في قلوبهم العقيدة؛ واشتاقوا القتال في سبيل الله. فقالوا: {لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله}. ومن خلال هذه التجربة- كما يعرضها السياق القرآني الموحي -تبرز جملة حقائق، تحمل إيحاءات قوية للجماعة المسلمة في كل جيل، فضلا على ما كانت تحمله للجماعة المسلمة في ذلك الحين. والعبرة الكلية التي تبرز من القصة كلها هي أن هذه الانتفاضة- انتفاضة العقيدة -على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلي القوم عنها فوجا بعد فوج في مراحل الطريق- على الرغم من هذا كله فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جدا.. فقد كان فيها النصر والعز والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل... تحت أقدام المتسلطين.
ولقد جاءت لهم بملك داود، ثم ملك سليمان -وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض، وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه؛ والذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى.. وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لانتفاضة العقيدة من تحت الركام؛ وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت!
وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية؛ كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين: من ذلك..
أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها. فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة.. فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل- من ذوي الرأي والمكانة فيهم -إلى نبيهم في ذلك الزمان، يطلبون إليه أن يختار لهم ملكا يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون. فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال، وقال لهم: {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا!} استنكروا عليه هذا القول، وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟}.. ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها، وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة؛ وكما يقول السياق بالإجمال: {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم}.. ومع أن لبني إسرائيل طابعا خاصا في النكول عن العهد، والنكوص عن الوعد، والتفرق في منتصف الطريق.. إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال، في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغا عاليا من التدريب.. وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل.. فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل.
... أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول.. فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم. ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها. وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة، ووقوع علامة الله باختياره لهم، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة...! ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى. وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم: {فلما فصل طالوت بالجنود قال:إن الله مبتليكم بنهر:فمن شرب منه فليس مني. ومن لم يطعمه فإنه مني- إلا من اغترف غرفة بيده -فشربوا منه إلا قليلا منهم}.. وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية. فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاوت العزائم وزلزلت القلوب:
{فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا:لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}.. وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة.. اعتصمت بالله ووثقت، وقالت:
{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)}. وهذه هي التي رجحت الكفة، وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين.
وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة.. وكلها واضحة في قيادة طالوت. تبرز منها خبرته بالنفوس؛ وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة، وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه.. ثم- وهذا هو الأهم -عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة؛ ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة. فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص، ووعد الله الصادق للمؤمنين.
والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة.. أن القلب الذي يتصل بالله لا تتغير موازينه وتصوراته؛ لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود. فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر، كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها ما يراه الآخرون الذين قالوا: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده).. ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف. إنما حكمت حكما آخر، فقالت: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين}.. ثم اتجهت لربها تدعوه: {ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}. وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده. فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه... وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح. وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون! ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة. فالنصوص القرآنية- كما علمتنا التجربة -تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن؛ وبقدر حاجته الظاهرة فيه. ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم..
إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة، وأسبابهما الظاهرة، وحقيقتهما المضمرة؛ ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة. والاطمئنان إلى قدر الله فيهما. والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع، فالمقدر كائن، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف.. يراد أن يقال: إن الحذر من الموت لا يجدي؛ وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة، ولا يمدان أجلا، ولا يردان قضاء؛ وإن الله هو واهب الحياة، وهو آخذ الحياة؛ وإنه متفضل في الحالتين: حين يهب، وحين يسترد؛ والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد. وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك؛ وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المعنى الإجمالي: لقد علمت أيها القارئ المتتبع لسنن الله في الناس واجتماعهم الناطقة به آياته في نفوسهم وفي الآفاق، علم اليقين والجزم الناشئ عن دليل منير، حال أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، ومن لم يعلم ذلك ينبغي أن يعلم؛ لأن البينات قائمة، والعلامة المعلمة واضحة فالاستفهام في الآية يقرر العلم، ويوجه الأنظار إلى وجوبه، ويحثها على الأخذ في أسبابه والالتفات إلى أماراته وأعلامه، فهو تقرير وتنبيه، وإثارة للمعجب من حال من فروا من الجهاد فلقوا الموت...
هذا [و] موضع قوله تعالى: {إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} في مقام بيان عاقبة الذين يتركون الجهاد ويفرون حذر الموت، وهو يدل على أن أولئك الفارين لم يقوموا بحق المنعم الذي أنعم عليهم، إذ لم يطيعوه بأخذ الأهبة والاستعداد، ولم يعتمدوا عليه سبحانه بعد أن يأخذوا بالأسباب، وكفروا بأنعم الله عليهم ولم يقوموا بحقها فعطلوا قواهم ورضوا بالفرار والعار، وعندهم القدرة على الدفاع مستعينين بالله سبحانه. و قد قال تعالى في وصف ذاته الكريمة: {إن الله لذو فضل على الناس} أي لصاحب فضل دائما، أي أن الفضل على الناس يلازم ذاته الكريمة، فهو المتفضل سبحانه وتعالى دائما، تفضل بالإيجاد، وتفضل بإيداع القوى، وتفضل بسن السنن الكونية والشرائع الهادية، والإرشاد القويم، وتفضل بأن أقام الأمور على الحق والقسط، وأن الخير يدفع الشر، وأهل الحق يدفعون الباطل وأنصاره، وإن المعتدى عليه يدفع اعتداء المعتدي، وفي كل ذلك صلاح الأرض {... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين 251} (البقرة)...
وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى علاج قضية إيمانية وهو أن الله حين يقدّر قدرا لا يمكن لمخلوق أن يفلت من هذا القدر، يقول سبحانه: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون 243}...
[لقد] أراد الحق سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية أن تعرف أن أحداً لن يفر من قدر الله إلا إلى قدر الله، فالأمة الإسلامية هي الأمة التي أمّنها على حمل رسالة ومنهج السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، فلم يعد محمد صلى الله عليه وسلم يأتي ولا نبي يُبعث. ولابد لمثل هذه الأمة أن تربى تربية تناسب مهمتها التي حملها الله إليها. ولابد أن يضع الحق سبحانه وتعالى بين يدي هذه الأمة كل ما لاقته وصادفته مواكب الرسل في الأمم السابقة ليأخذوا العبرة من المواقف ويتمثلوا المنهج لا من نظريات تتلى ولكن من واقع قد دُرس ووقع في المجتمع. أراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أساس المسألة وهو أنه سبحانه واهب الحياة ولا أحد غيره، وواهب الحياة هو الذي يأخذها. ولم يضع لهبة الحياة سبباً عند الناس. وإنما هو سبحانه الذي يحيي ويميت. وفي الحياة والموت استبقاء للنوع الإنساني، ولكن استبقاء حياة الأفراد إنما ينشأ بالقوت الذي ينشأ من التمول.
ويعالج الحق هذه المسألة بواقع سبق أن عاشه موسى عليه السلام مع قومه وهم بنو إسرائيل، ونعرف أن قصة موسى مع قومه قد أخذت أوسع قصص القرآن؛ لأنها الأمة التي أتعبت الرسل، وأتعبت الأنبياء، وكان لابد أن يعرض الحق هذا الأمر برمته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من واقع ما حدث، فقال سبحانه:
{ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}،... ولقد جاءت هذه الآية في مجال استخلاص العبر من هزيمة أحُد حين شاع بين المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، ففكر بعض منهم في الارتداد، وجاء قول الحق سبحانه موضحا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو نبي سبقه رسل جاءوا بالمنهج، والأمة المسلمة التي أمنها الله على تمام المنهج لا يصح أن يهتز الإيمان فيها بموت الرسول الكريم؛ لأن من ينقلب ويرتد فلن يضر الله شيئا، إنما الجزاء سيكون للشاكرين العارفين فضل منهج الله.
ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه جاء بالموت كمقابل للقتل، وأوضح في الآية التالية أمر الموت حين قال: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يُرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين 145} (سورة آل عمران). إذن فأمر الموت مرهون بمشيئة الله وطلاقة قدرته وتحديده لكل أجل بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، وسيلقى كل إنسان نتيجة عمله، فمن عمل للدنيا فقط نال جزاءه فيها، ومن عمل للآخرة فسيجزيه الله في دنياه وآخرته. لذلك يصدر الأمر من الحق بقوله: {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} فلم يكن بإرادتهم أن يصنعوا موتهم، أو أمر عودتهم إلى الحياة، لكنه أمر تسخيري. إنهم يموتون بطلاقة قدرته المتمثلة في {كن فيكون}. ويعودون إلى الحياة بتمام طلاقة القدرة المتمثلة في {كن فيكون}. فليس لهم رأي في مسألة الموت أو العودة للحياة، إنه أمر تسخيري، كما قال الحق من قبل للأرض والسماء: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين 11} (سورة فصلت)...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}... فإنها تحدّثنا عن جماعة من النّاس خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت، دون أن تعرّفنا ظروف هذا الخوف، هل هو العدو المتربص بهم، أو هو المرض الذي يوشك أن يحل بهم أو هو شيء آخر... ولم يرضَ اللّه لهم بهذا الخروج، لأنَّ ذلك لن يحل لهم المشكلة، فللموت أسباب كثيرة تنتظر النّاس في الطريق. فإذا هربوا من سبب التقوا بسبب آخر، فكأنَّ اللّه يريد لهم أن يواجهوا الموقف من موقع الصمود الواعي الذي يتعامل مع الحياة والموت بإرادة واعية، لا تبتعد عن الواقع عندما تقترب من الإيمان... فأماتهم اللّه جميعاً {فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُواْ}، ليعرّفهم أنَّ الموت بيده، فهو الذي يحدّد وقته من خلال حكمته في الكون بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد يأتي الموت للإنسان من حيث لا يحتسب، وقد يتركه من حيث يرى أنه قادم إليه. {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} بما يملكه من القدرة على الإحياء، لأنه مالك الحياة والموت، ليأخذوا العبرة من ذلك في ما يستقبلون من حياة جديدة، فلا يهربون من الموت عندما تدعوهم المسؤولية إلى مواجهة الخطر الذي يقترب بهم من الموت، بل يُقبلون عليه إقبال الإنسان الواثق بأنَّ قضية الحياة والموت بيد اللّه، ولا رادّ لقضاء اللّه تماماً كما هو وحي الآية الكريمة في قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]. وقوله تعالى في آية أخرى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه كِتَباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145].
وهكذا كانت الآية تعبّر عن صورة من صور الواقع بما توحيه من حكاية التاريخ في مدلولها اللفظي. وربما كان قوله تعالى لهم: {مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}، دلالة واضحة على أنَّ للقضية وجهاً مادياً في ما تعنيه كلمة الحياة والموت، لا سيما بعد حديثه عنهم بأنهم خرجوا من بيوتهم حذر الموت. فكأنه أراد أن يأخذهم بعكس ما قصدوه، فقد فكروا بأنَّ الخروج يحقّق لهم النجاة من الموت، فإذا به يلقيهم في منتصف الطريق. وفي هذا الجوّ، نفهم من الإحياء بعد ذلك معنى يلتقي بالعبرة التي أراد اللّه لهم أن يأخذوها من ذلك كلّه.
ولعلّ في ابتداء الآية بكلمة {أَلَمْ تَرَ} ما يوحي بأنَّ القصة كانت معروفة بشكل واضح، أو هكذا تريد الآية أن توحي، ما يؤكد الطبيعة الواقعية للقصة. ولهذا كلّه، فإننا نتحفظ بشدّة في تأويل كلمات الآية إلى غير ما هو ظاهر من معناها اللغوي، لا لأننا نرفض الاستعمالات المجازية في القرآن، بل لأنَّ جوّ الآية لا يسمح بذلك... ولكن هذا لا يمنع من أن يستوحي القارئ للقرآن من هذه الآية المعاني الكبيرة التي تربط النّاس بالفكرة.