الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡيَٰهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (243)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ } الآية ، قال أكثر المفسّرين : كانت قرية يقال لها داوردان قِبلَ واسط وقع بها الطاعون ، فخرجت طائفة هاربين من الطاعون ، وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية ، وسلم الذين خرجوا ، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا سالمين ، فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا ، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا ، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجنّ إلى أرض نأوي بها ، فوقع الطاعون من قابل ؛ فهرب عامّة أهلها فخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح ، فلمّا نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة والحياة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً .

وعن الأصمعي قال : لما وقع الطاعون بالبصرة خرج رجل من أهلها عنها على حمار ومعه أهله وولده وخلفه عبد حبشي يسوق حماره ، فطفق العبد يرتجز وهو يقول :

لن نسبق الله على حمار *** ولا على ذي منعة مُطار

قد يصبح الله أمام الساري

فرجع الرجل بعياله لمّا سمع قوله ، وروى عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فراراً منه " .

وقال الضحّاك ومقاتل والكلبي : إنما فرّوا من الجهاد وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوّهم ، فخرجوا فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت واعتلّوا ، وقالوا لملكهم : إن الأرض التي نأتيها فيها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء ، فأرسل الله تعالى عليهم الموت ، فلمّا رأوا أن الموت كثر فيهم خرجوا { مِن دِيَارِهِمْ } فراراً من الموت ، فلمّا رأى الملك ذلك قال : اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك ، فلمّا خرجوا قال لهم الله : موتوا ، عقوبة لهم ، فماتوا جميعاً ، وماتت دوابهم كموت رجل واحد ، فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروّحت أجسادهم ، فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها .

واختلفوا في مبلغ عددهم ، فقال عطاء الخراساني : كانوا ثلاثة آلاف ، ابن عباس ووهب : أربعة آلاف ، مقاتل والكلبي : ثمانية آلاف ، أبو روق : عشرة آلاف ، أبو مالك : ثلاثون ألفاً ، الواقدي بضعة ومائتين ألفاً ، ابن جريج : أربعين ألفاً ، عطاء بن أبي رياح : سبعين ألفاً ، الضحّاك : كانوا عدداً كبيراً ، وأَولى الأقاويل بالصواب قول من قال : زادوا على عشرة آلاف ، وذلك أنّ الله تعالى قال { وَهُمْ أُلُوفٌ } وما دون العشرة لا يقال ألوف ، إنّما يقال : ثلاثة آلاف فصاعداً إلى عشرة آلاف ، فمن الألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف ، مثل يوم وأيام ، ووقت وأوقات ، وألف على وزن أفعل . [ وقيل : ] كانوا ثلاثة آلاف [ وكيسة ] اليمان أعجمي من بني الفداحم .

قالوا : فأتى على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم وتقطّعت أوصالهم ، فمرّ عليهم نبي يقال له حزقيل بن بوري ثارم أحد خلفاء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام ، وذلك بأنّ القيّم بأمر بني إسرائيل كان بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون ، ثم كالب بن يوفنا ، ثم حزقيل ، وكان يقال له ابن العجوز وذلك أنّ أمه كانت عجوزاً فسألت الله تعالى الولد ، وقد كبرت وعقمت فوهبه الله لها فلذلك قيل له : ابن العجوز .

قال الحسن ومقاتل : هو ذو الكفل لأنّه تكفل سبعين نبيّاً وأنجاهم من القتل ، وقال لهم : اذهبوا فإني إنْ قُتلت كان خيراً من أن تقتلوا جميعاً ، فلمّا جاء اليهود وسألوا حزقيل عن الأنبياء السبعين ، قال : إنهم ذهبوا ولا أدري أين هم ، ومنع الله ذا الكفل من اليهود ، فلمّا مرّ حزقيل على أُولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجباً منهم ، فأوحى الله إليه : يا حزقيل تريد أن أريك آية ، فأريك كيف أحيي الموتى ؟ قال : نعم ، فأحياهم الله . هذا قول السدي وجماعة من المفسّرين .

وقال هلال بن يساف وجماعة من العلماء : بل دعا حزقيل ربّه أن يحييهم ، فقال : ياربّ لو شئت أحييت هؤلاء فعمّروا بلادك وعبدوك ، فقال الله : أتحب أن أفعل ؟ قال : نعم ، فأحياهم .

وقال عطاء ومقاتل والكلبي : بل هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيام ، وذلك أنّهم لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى وبكى وقال : ياربّ كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدّسونك ويهللونك ويكبّرونك ؛ فبقيت وحيداً لا قوم لي ، فأوحى الله إليه : إني قد جعلت حياتهم إليك ، فقال حزقيل : احيوا بأمر الله ، فعاشوا .

وقال : وثمّت أصابهم بلاء وشدّة من الزمان فشكوا ما أصابهم وقالوا : ما لبثنا ، متنا واسترحنا مما نحن فيه ؛ فأوحى الله تعالى إلى حزقيل : إن قومك قد صاحوا من البلاء وزعموا أنهم ودّوا لو ماتوا واستراحوا وأي راحة لهم في الموت ، أيظنون أنّي لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت ، فانطلقْ إلى جبّانة كذا فإن فيها قوماً أمواتاً ، فأتاهم فقال الله : يا حزقيل قم فنادهم ، وكانت أجسادهم وعظامهم قد تفرّقت ، فنادى حزقيل : أيتها العظام إنّ الله يأمركِ أن تكتسي باللحم ، فاكتست جميعاً باللحم ، وبعد اللحم جلداً ودماً وعصباً وعروقاً وكانت أجساداً ، ثم نادى أيّتها الأرواح إنّ الله يأمرك أن تعودي في أجسادك ، فقاموا جميعاً وعليهم ثيابهم التي ماتوا فيها ، وكبّروا تكبيرة واحدة .

وروى المنصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أُحيوا : سبحانك ربّنا وبحمدك ، لا إله إلاّ أنت ، فرجعوا إلى قومهم بعد ما أحياهم الله ، وتناسلوا وعاشوا دهراً يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوباً إلاّ عاد دسماً مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت عليهم .

قال ابن عباس : فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح .

قال قتادة : مقتهم الله تعالى على فرارهم من الموت ، فأماتهم [ عقربة ] ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها ، ولو كان آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم ، فذلك قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ } ألمْ ترَ أي ألمْ تُخبر ، ألمْ تعلم بإعلامي إيّاك وهو رؤية القلب لا رؤية العين ؛ فصار تصديق أخبار الله عزّ وجلّ كالنظر إليه عياناً .

وقال أهل المعاني : هو تعجب وتعظيم يقول : هل رأيت مثلهم كما تقول : ألمْ ترَ إلى ما يصنع فلان ؟ وكلّ لم في القرآن من قوله { أَلَمْ تَرَ } ولم يعاينه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وجهه ومعناه ، وقرأها كلّها أبو عبد الرحمن السلمي { أَلَمْ تَرَ } بسكون الراء وهي لغة قسم من العرب لمّا حذفوا الياء للجزم توهّموا أن الراء آخر الكلمة فسكّنوها ، وأنشد الفراء :

قالت سليمى سرْ لنا دقيقا

إلى الذين خرجوا من ديارهم { وَهُمْ } واو الحال { أُلُوفٌ } جمع ألف ، وقال ابن زيد : مؤتلف قلوبهم جعله جمع ألف مثل جالس وجلوس وقاعد وقعود { حَذَرَ الْمَوْتِ } أي من خوف الموت { فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ } أمر تحويل كقوله { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } . { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } من بعد موتهم { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } إلى { يَشْكُرُونَ }