البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡيَٰهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (243)

الألف : عدد معروف وجمعه في القلة آلاف وفي الكثرة ألوف ، ويقال : آلفت الدراهم وآلفت هي ، وقيل : ألوف جمع آلف كشاهد وشهود .

{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى متى ذكر شيئاً من الأحكام التكليفية ، أعقب ذلك بشيء من القصص على سبيل الاعتبار للسامع ، فيحمله ذلك على الإنقياد وترك العناد ، وكان تعالى قد ذكر أشياء من أحكام الموتى ومن خلفوا ، فأعقب ذلك بذكر هذه القصة العجيبة ، وكيف أمات الله هؤلاء الخارجين من ديارهم ، ثم أحياهم في الدنيا ، فكما كان قادراً على إحيائهم في الدنيا هو قادر على إحياء المتوفين في الآخرة ، فيجازي كلاَّ منهم بما عمل .

ففي هذه القصة تنبيه على المعاد ، وأنه كائن لا محالة ، فيليق بكل عاقل أن يعمل لمعاده : بأن يحافظ على عبادة ربه ، وأن يوفي حقوق عباده .

وقيل : لما بين تعالى حكم النكاح ، بين حكم القتال ، لأن النكاح تحصين للدّين ، والقتال تحصين للدّين والمال والروح ، وقيل : مناسبة هذه الآية لما قبلها : هو أنه لما ذكر : { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون } ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته ، وبدائع قدرته .

وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي ، فصار الكلام تقريراً ، فيمكن أن يكون المخاطب علم بهذه الصفة قبل نزول هذه الآية ، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلاَّ من هذه الآية ، ومعناه التنبيه والتعجب من حال هؤلاء ، والرؤية هنا علمية ، وضمنت معنى ما يتعدّى بإلى ، فلذلك لم يتعد إلى مفعولين ، وكأنه قيل : ألم ينته علمك إلى كذا .

وقال الراغب : رأيت ، يتعدّى بنفسه دون الجار ، لكن لما استعير قولهم : ألم تر المعنى : ألم تنظر ، عدّي تعديته ، وقلما يستعمل ذلك في غير التقرير ، ما يقال : رأيت إلى كذا . انتهى .

و : ألم تر ، جرى مجرى التعجب في لسانهم ، كما جاء في الحديث : « ألم تر إلى مجزز ! » وذلك في رؤيته أرجل زيد وابنه أسامة ، وكان أسود ، فقال هذه الأقدام بعضها من بعض ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه ، فقال على سبيل التعجب : « ألم تر إلى مجزز ! » الحديث .

وقد جاء هذا اللفظ في القرآن : { ألم تر إلى الذين نافقوا } { ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم } { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الله } وقال الشاعر :

ألم ترياني كلما جئت طارقاً***

وجدت بها طيباً وإن لم تطيب

ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يكون لكل سامع .

وقرأ السلمي : تر ، بسكون الراء ، قالوا : على توهم أن الراء آخر الكلمة ، قال الراجز :

قالت سليمى اشتر لنا سويقا***

واشتر فعجل خادماً لبيقا

ويجوز أن يكون من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقد جاء في القرآن : كإثبات ألف : { الظنونا } { والسبيلا } { والرسولا } في الوصل .

وهؤلاء الذين خرجوا قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد ، فخافوا القتل ، فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك ، فأماتهم الله ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله : { وقاتلوا في سبيل الله } الآية .

وقيل : قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء فخرجوا فراراً منه ، فأماتهم الله فبنى عليهم سائر بني إسرائيل حائطاً حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فدعا الله فأحياهم له .

حكى هذا قوم من اليهود لعمر بن الخطاب .

وقال السدّي : هم أمّة كانت قبل واسط في قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون ، فهربوا منه ، فأماتهم الله ، ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أن لا مفر من قضاء الله .

وقيل : مر عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم ، وتفرّقت أوصالهم ، فلوى شدقه وأصابعه تعجباً مما رأى .

فأوحى إليه : نادِ فيهم أن قوموا بإذن الله .

فنادى ، فنظر إليهم قياماً يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله لا أنت .

وممن قال فرّوا من الطاعون : الحسن ، وعمار بن دينار .

وقيل : فروا من الحمى ، حكاه النقاش .

وقد كثر الاختلاف والزيادة والنقص في هذه القصص ، والله أعلم بصحة ذلك ، ولا تعارض بين هذه القصص ، إلاَّ أن عين أن { الذين خرجوا من ديارهم } هم من ذكر في القصة لا غير ، وإلاَّ فيجوز أن ذكرت كل قصة على سبيل المثال ، إذ لا يمتنع أن يفر ناسٌ من الجهاد ، وناس من الطاعون ، وناس من الحمى ، فيميتهم ثم يحييهم ليعتبروا بذلك ، ويعتبر من يأتي بعدهم ، وليعلموا جميعاً أن الإماتة والإحياء بيد الله ، فلا ينبغي أن يخاف من شيء مقدّر ، ولا يغتر فطن بحيلة أنها تنجيه مما شاء الله .

{ وهم ألوف } في هذا تنبيه على أن الكثرة والتعاضد ، وإن كانا نافعين في دفع الأذيات الدنيوية ، فليسا بمغنيين في الأمور الإلهية .

وهي جملة حالية ، وألوف جمع ألف جمع كثرة ، فناسب أن يفسر بما زاد على عشرة آلاف ، فقيل : ستمائة ألف .

وقال عطاء : تسعون ، وقيل : ثمانون ، وقال عطاء أيضاً سبعون وقال ابن عباس : أربعون .

وقال أيضاً : بضع وثلاثون .

وقال أبو مالك : ثلاثون ، يعنون ألفاً .

وقد فسر بما هو لأدنى العدد استعير لفظ الجمع الكثير للجمع القليل ، فقال أبو روق : عشرة آلاف ، وقال الكلبي ومقاتل : ثمانية ، وقال أبو صالح : سبعة ، وقال ابن عباس ، وابن جبير : أربعة وقال عطاء الخراساني : ثلاثة آلاف .

وقال البغوى : الأَوْلى قول من قال : إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف ، لأن ألوفاً جمع الكثير ، ولا يقال لما دون العشرة الآلاف ألوف . انتهى .

وهذا ليس كما ذكر ، فقد يستعار أحد الجمعين للآخر ، وإن كان الأصل استعمال كل واحد منهما في موضوعه .

وهذه التقديرات كلها لا دليل على شيء منها ، ولفظ القرآن : { وهم ألوف } لم ينص على عدد معين ، ويحتمل أن لا يراد ظاهر جمع ألف ، بل يكون ذلك المراد منه التكثير ، كأنه قيل : خرجوا من ديارهم وهم عالم كثيرون ، لا يكادون يحصيهم عادٌّ ، فعبر عن هذا المعنى بقوله : وهم ألوف ، كما يصح أن تقول : جئتك ألف مرة ، لا تريد حقيقة العدد إنما تريد جئتك مراراً كثيرة لا تكاد تحصى من كثرتها ونظير ذلك قول الشاعر :

هو المنزل الآلاف من جوّ ناعط***

بني أسد حزناً من الأرض أوعرا

ولعل من كان معه لم يكن ألوفاً ، فضلاً عن أن يكونوا آلافاً ، ولكنه أراد بذلك التكثير ، لأن العرب تكثر بآلاف وتجمعه ، والجمهور على أن قوله : وهم ألوف ، جمع ألف العدد المعروف الذي هو تكرير مائة عشر مرات ، وقال ابن زيد : ألوف جمع آلف .

كقاعد وقعود .

أي : خرجوا وهم مؤتلفون لم يخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم ، بل ائتلفوا ، فخالفت هذه الفرقة ، فخرجت فراراً من الموت وابتغاء الحياة ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم .

وقال الزمخشري : وهذا من بدع التفاسير ، وهو كما قال .

وقال القاضي : كونه جمع ألف من العدد أولى ، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة تفيد مزيد اعتبار ، وأما وروده على قوم بينهم ائتلاف فكوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير .

{ حذر الموت } هذا علة لخروجهم ، لما غلب على ظنهم الموت بالطاعون أو بالجهاد ، حملهم على الخروج ذلك ، وهو مفعول من أجله ، وشروط المفعول له موجودة فيه من كونه مصدراً متحد الفاعل والزمان .

{ فقال لهم الله موتوا } ظاهره أن ثَمّ قولاً لله ، فقيل : قال لهم ذلك على لسان الرسول الذي أذن له في أن يقول لهم ذلك عن الله ، وقيل : على لسان الملك .

وحكي : أن ملكين صاحا بهم : موتوا ، فماتوا .

وقيل : سمعت الملائكة ذلك فتوفتهم ، وقيل : لا قول هناك ، وهو كناية عن قابليتهم الموت في ساعة واحدةٍ وموتهم كموتة رجل واحد ، والمعنى : فأماتهم ، لكن أخرج ذلك مخرج الشخص المأمور بشيء ، المسرع الامتثال من غير توقف ، ولا امتناع ، كقوله تعالى : { كن فيكون }

وفي الكلام حذف ، التقدير : فماتوا ، وظاهر هذا الموت مفارقة الأرواح الأجساد ، فقيل : ماتوا ثمانية أيام ثم أحياهم بعد ، بدعاء حزقيل ؛ وقيل : سبعة أيام ، وقد تقدّم في بعض القصص أنه عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، وهذا لا يكون في العادة في ثمانية أيام ، وهذا الموت ليس بموت الآجال ، بل جعله الله في هؤلاء كمرض وحادث مما يحدث على البشر ، كحال { الذي مر على قرية } المذكورة بعد هذا .

{ ثم أحياهم } العطف بثم يدل على تراخي الإحياء عن الإماتة ، قال قتادة : أحياهم ليستوفوا آجالهم .

وظاهره أن الله هو الذي أحياهم بغير واسطة ، وقال مقاتل : كانوا قوم حزقيل ، فخرج فوجدهم موتى ، فأوحى الله إليه : إني جعلت حياتهم إليك ، فقال لهم : احيوا .

وقال ابن عباس : النبي شمعون ، وريح الموتى توجد في أولادهم .

وقيل : النبي يوشع بن نون ، وقال وهب : اسمه شمويل وهو ذو الكفل ، وقال مجاهد : لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرقون ، لكن سحنة الموت على وجوههم ولا يلبس أحد منهم ثوباً إلاَّ عاد كفناً دسماً ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم ، وقيل : معنى إماتتهم تذليلهم تذليلاً يجري مجرى الموت ، فلم تغن عنهم كثرتهم وتظاهرهم من الله شيئاً ، ثم أعانهم وخلصهم ليعرفوا قدرة الله في أنه يذل من يشاء ، ويعز من يشاء ، وقيل : عنى بالموت : الجهل ، وبالحياة : العلم ، كما يحيا الجسد بالروح .

وأتت هذه القصة بين يدي الأمر بالقتال تشجيعاً للمؤمنين ، وحثاً على الجهاد والتعريض للشهادة ، وإعلاماً أن لا مفر مما قضى الله تعالى : { قل لن يصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا } واحتجاجاً على اليهود ، والنصارى بإنبائه صلى الله عليه وسلم بما لا يدفعون صحته ، مع كونه أمّياً لم يقرأ كتاباً ، ولم يدارس أحداً ، وعلى مشركي العرب إذ من قرأ الكتب يصدقه في إخباره بما جاء به مما هو في كتبهم .

{ إن الله لذو فضل على الناس } أكد هذه الجملة : بإن ، واللام ، وأتى الخبر : لذو ، الدالة على الشرف ، بخلاف صاحب ، و : الناس ، هنا عام ، لأن كل أحد لله عليه فضل أيّ فضل ، وخصوصاً هنا ، حيث نبههم على ما به يستبصرون ويعتبرون على النشأة الآخرة ، وأنها ممكنة عقلا ، كائنة بإخباره تعالى : إذ أعاد إلى الأجسام البالية المشاهدة بالعين الأرواح المفارقة ، وأبقاها فيها الأزمان الطويلة إلى أن قبضها ثانية ، وأي فضل أجل من هذا الفضل ، إذ تتضمن جميع كليات العقائد المنجية وجزئياتها : ويجوز أن يراد : بالناس ، ههنا الخصوص ، وهم هؤلاء الذين تفضل عليهم بالنعم ، وأمرهم بالجهاد ففروا منه خوفاً من الموت ، فأماتهم ، ثم تفضل عليهم بالإحياء وطوّل لهم في الحياة ليستيقنوا أن لا مفر من القدر ، ويستدركوا ما فاتهم من الطاعات ، وقص الله علينا ذلك تنبيهاً على أن لا نسلك مسلكهم بل نمتثل ما يأمر به تعالى .

{ ولكن أكثر الناس لا يشكرون } تقدّم فضل الله على جميع الناس بالإيجاد والرزق ، وغير ذلك ، فكان المناسب لهم أنهم يشكرون الله على ذلك ، وهذا الاستدراك : بلكن ، مما تضمنه قوله : { إن الله لذو فضل على الناس } والتقدير : فيجب عليهم أن يشكروا الله على فضله ، فاستدرك بأن أكثرهم لا يشكرون ، ودل على أن الشاكر قليل ، كقوله : { وقليل من عبادي الشكور } ويخص : الناس ، الثاني بالمكلفين .

/خ247