فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡيَٰهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (243)

{ ألم تر } استفهام قد يراد به التقرير والتعجيب ، والرؤية ربما تكون بصرية بمعنى الإدراك والعلم والخطاب لكل ما يصلح له { إلى الذين خرجوا من ديارهم } نقل عن سيبويه المعنى : تنبه إلى أمر الذين خرجوا ، قوم تركوا ديارهم فارين من الوباء {[748]} أو الجهاد {[749]} فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وقضائه { وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } عن محمد بن إسحق قال : بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون أو من سقم كان يصيب الناس -حذرا من الموت وهم ألوف حتى نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله موتوا فماتوا جميعا فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ثم تركوهم فيها وذلك أن كثروا على أن يغيبوا [ أي يدفنوا ] فمرت بهم الأزمان والدهور حتى صاروا عظاما نخرة فمر بهم حزقيل ابن بوزى فوقف عليهم فتعجب لأمرهم ودخله رحمة لهم . . حتى غشي عليه . . ثم أفاق والقوم جلوس يقولون سبحان الله سبحان الله قد أحياهم الله . وعن قتادة : مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم الله عقوبة ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم . ومما يقول : ابن جرير وأولى الأقوال في مبلغ عدد القوم الذي وصف الله خروجهم من ديارهم بالصواب : قول من حددهم بالزيادة عن عشرة آلاف دون من حده بأربعة آلاف . . وثمانية آلاف وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم ألوفا وإنما يقال هم آلاف إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف وغير جائز أن يقال هم خمسة ألوف أو عشرة ألوف . . 1ه .

{ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } تذكير بحق الجواد الكريم الوهاب سبحانه وتوكيد لأنه صاحب المن والعطاء والإفضال { . . وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها . . }{[750]} فهو الذي أصبغ ما ظهر منها وما بطن ، خلق فسوى وقدر فهدى وأغنى وأقنى وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دينياهم ودينهم وأنفسهم وأموالهم كما أحيا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم وعبرة يعتبرون بهم وليعلموا أن الأمور كلها بيده فيستسلمون لقضائه ويصرفون الرغبة كلها والرهبة إليه-{[751]} . { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } ومع أن شكر المنعم واجب فقليل من الناس من يقر بالفضل ويثني على المتفضل الوهاب كما بين المولى في محكم آيات الكتاب { . . . . وقليل من عبادي الشكور }{[752]} ، بل يزداد البعض جحودا كلما بسط لهم في الرزق وصدق الله العظيم { . . إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى }{[753]} ؛ أكثر من ينعم عليهم من عباده بنعمه الجليلة ويمن عليه بمننه الجسيمة يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره ويتخذ إلها من دونه كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه ومن الحمد ما يثقله ؛ لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم وفضلي الذي تفضلت به عليهم بعبادتهم غيري وصرفهم رغبتهم ورهبتهم على من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا-{[754]} .


[748]:نقل المفسرون بالمأثور عن أشعت بن أسلم البصري قال بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه وكان عمر إذا أراد أن يركع [لعل المراد بيركع يسجد لأن خوى معناها تجافى في سجوده وفرج ما بين عضديه وجنبيه] خوى (فخرج ما بين عضديه وجنبيه) قال أحدهما لصاحبه أهوهو؟ فلما انفلت عمر قال رأيت قول أحدكما لصاحبه أهو هو؟ فقالا إنا نجد في كتابنا قرنا من حديد يعطى ما يعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن الله فقال عمر ما نجد في كتاب الله حزقيل ولا أحيا الموتى بإذنه الله إلا عيسى فقال أما تجد في كتابكم {.. ورسلا لم نقصصهم عليك..} فقال عمر: بلى قال وأما إحياء الموتى فسنحدثك أن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله فبنوا عليهم حائطا حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم ما شاء الله فبعثهم الله له فأنزل الله في ذلك {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف..} الآية.
[749]:وأخرج بن جرير رحمه الله تعالى بسنده عن ابن جرير قال: قال ابن عباس كانوا أربعين ألفا أو ثمانية آلاف حظر عليهم حظائر وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله فأماتهم الله ثم أحياهم فأمرهم بالجهاد فذلك قوله فقاتلوا في سبيل الله الآية. وفي رواية عنه بزيادة وهم الذين قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله.
[750]:سورة إبراهيم من الآية 34.
[751]:من جامع البيان.
[752]:سورة سبأ من الآية 13.
[753]:سورة العلق من الآية 6. والآية 7.
[754]:من جامع البيان.