اعلم أنَّ عادته تعالى : أن يذكر القصص بعد بيان الأحكام ليفيد الاعتبار للسَّامع .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ } : هذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النَّفي ، فصيَّرت النَّفي تقريراً ، وكذا كلُّ استفهام دخل على نفي نحو : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح :1 ] { أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر :36 ] فيمكن أن يكون المخاطب علم هذه القصّة قبل نزول هذه الآية ، فيكون التَّقرير ظاهراً ، أي : قد رأيت حال هؤلاء ، كقول الرَّجل لغيره يريد تعريفه ابتداء : " ألم تر إلى ما جرى على فلان " ؟ .
قال القرطبيُّ{[3997]} : والمعنى عند سيبويه : تنبُّه إلى أمر الذين ، ولا تحتاج هذه الرواية إلى مفعولين والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل سامع ، إلاَّ أنَّه قد وقع الخطاب معه ابتداءً كقوله : { يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّساَءَ } [ الطلاق :1 ] ويجوز أن يكون المراد بهذا الاستفهام : التعجب من حال هؤلاء ، وأكثر ما يرد كذلك : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّواْ قَوْماً } [ المجادلة :14 ] { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } [ الفرقان :45 ] ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقاً *** وَجَدْتُ بِهَا طِيباً وإنْ لَمْ تَطَيَّبِ{[3998]}
والرُّؤية هنا علميَّة ، فكان من حقِّها أن تتعدَّى لاثنين ، ولكنَّها ضمِّنت معنى ما يتعدَّى بإلى .
والمعنى : ألم ينته علمك إلى كذا . وقال الرَّاغب{[3999]} : " رأيت : يتعدَّى بنفسه دون الجارِّ ، لكن لما استعير قولهم : " ألم تَرَ " بمعنى ألم تنظر ؛ عدِّي تعديته ، وقلَّما يستعمل ذلك في غير التقدير ، لا يقال : رأيت إلى كذا " .
وقرأ السُّلمي : " تَرْ " بسكون الرَّاء ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه توهَّم أنَّ الراء لام الكلمة ، فسكَّنها للجزم ؛ كقوله : [ الرجز ]
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا *** وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِماً لَبِيقَا{[4000]}
وقيل : هي لغة قومٍ ، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلَّة .
والثاني : أنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذا أولى ، فإنَّه كثيرٌ في القرآن ؛ نحو : " الظُّنُونَا " ، و " الرَّسُولاَ " ، و " السَّبِيلاَ " ، و " لَمْ يَتَسَنَّهُ " ، و " بِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ " وقوله : " وَنُصْلِهِ " ، و " نُؤْتِهِ " ، و " يُؤَدِّه " ، وسيأتي ذلك ، إن شاء الله تعالى .
قوله : " وَهُمْ أُلُوفٌ " مبتدأٌ وخبرٌ ، وهذه الجملة في [ موضع ] نصب على الحال ، وهذا أحسن مجيئها ، إذ قد جمع فيها بين الواو والضمير ، و " أُلوفٌ " فيه قولان :
أظهرهما : أنه جمع " ألْف " لهذا العدد الخاصِّ ، وهو جمع الكثرة ، وجمع القلّة : آلاف كحمول ، وأحمال .
والثاني : أنه جمع " آلِف " على فاعل كشاهدٍ وشهود ، وقاعدٍ وقُعودٍ ، أي : خرجوا وهم مؤتلفون ، قال الزَّمخشريُّ : " وهذا من بِدَع التَّفاسير " .
قوله تعالى : { حَذَرَ الْمَوْتِ } أي من خوف الموت وهو مفعولٌ من أجله ، وفيه شروط النَّصب ، أعني المصدرية ، واتحاد الفاعل ، والزمان .
قوله : { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوفٌ على معنى : فقال لهم الله : موتوا ، لأنَّه أمرٌ في معنى الخبر تقديره : فأماتهم الله ثم أحياهم .
والثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ ، تقديره : فماتوا ثم أحياهم بعد موتهم ، و " ثم " تقتضي تراخي الإحياء عن الإماتة . وألف " أَحْيَا " عن ياء ؛ لأنَّه من " حَيِيَ " ، وقد تقدَّم تصريف هذه المادّة عند قوله : { إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } [ البقرة :26 ] .
قال السُّدِّيُّ وأكثر المفسرين{[4001]} : " كانت قرية يقال لها : " دَاوْردَان " قيل واسط ، وقع بها الطَّاعون ، فخرج عامَّة أهلها ، وبقيت طائفةٌ ، فهلك أكثر الباقين وبقي منهم بقيَّةٌ في المرض والبلاء ، فلما ارتفع الطَّاعون ؛ رجع الَّذين هربوا سالمين فقال من بَقِيَ من المرضى : هؤلاء أحزم منّا ، لو صنعنا كما صنعوا لنجونا ، ولئن وقع الطَّاعون ثانيةً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء فيها ، فوقع الطاعون من قابِلٍ ؛ فهرب عامَّة أهلها ، وهم بضعةٌ وثلاثون ألفاً ؛ حتى نزلوا وادياً أفيح فلمّا نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النَّجاة ، ناداهم ملك من أسفل الوادي ، وآخر من أعلاه : " أنْ مُوتُوا " فماتوا جميعاً وبليت أجسامهم ، فمرَّ بهم نبيٌّ يقال له : " حِزْقِيل بن يوذي " : ثالث خلفاء بني إسرائيل ، بعد موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يُوشَعُ بْنُ نُون ثم كالب بن يوفنا ، ثم حزقيل ، وكان يقال له : ابن العجوز ؛ لأنَّه أمَّه كانت عجوزاً ، فسألت الله الولد بعدما كبرت ، وعقمت ، فوهبه الله لها{[4002]} " .
قال الحسن ، ومقاتل{[4003]} : هو ذو الكفل ، وسمِّي : ذا الكفل ؛ لأنَّه تكفَّل بسبعين نبيّاً ، وأنجاهم من القتل ، فلمَّا مرَّ حزقيل على أولئك الموتى ، وقف متفكّراً فيهم متعجِّباً ، فأوحى الله إليه أتريد أن أُريك آيةً ؟ قال : نعم ، فقيل له : نادِ ! يَا أَيُّهَا العِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أن تَجْتَمِعِي ، فجعلتِ العِظَامُ يَطِيرُ بعضها إلى بعض ، حتى تمّت العِظَامُ ، ثم أوحى اللهُ إليه ثانياً أن ينادي : يا أيَّتُها العِظَامُ ؛ إنَّ اللهَ يأمرك أنَّ تَكْتَسِي لحماً ودماً ، ثم نادي : إنَّ اللهَ يأمرك أن تَقُومي ؛ فقامت ، فلمَّا صاروا أحياءً قاموا ، وكانوا يقولون : " سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ " ثم رجعوا إلى قريتهم ، بعد حياتهم ، وكانت أمارات موتهم ظاهرةً في وجوههم ، ثمَّ بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم{[4004]} .
روى عبد الله بن عامر بن ربيعة أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه : خرج إلى الشَّام ، فلمَّا جاء " سَرْغَ " بلغه أنَّ الوباء قد وقع بالشَّام ؛ فأخبره عبد الرحمن بن عوف : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ ، وإذا وَقَعَ بِأَرْضٍ وأَنْتُمْ بِهَا ؛ فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً " ؛ فرجع عمر من " سرغ " {[4005]} .
وقال ابن عبَّاس ، والكلبيُّ ومقاتل والضَّحَّاك : إنَّ ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال ؛ فخافوا القتال ، وجبنوا ، وكرهوا الموت ، فاعتلُّوا ، وقالوا لملكهم : إنَّ الأرض التي تذهب إليها بها الوباء ، فلا نأتيها حتى يزول ذلك الوباء منها ؛ فأرسل الله عليهم الموت ؛ فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فلما رأى الملك ذلك قال : اللَّهمّ ربّ يعقوب ، وإله موسى ، وهارون قد ترى معصية عبادك ، فأرهم آيةً في أنفسهم ، حتى يعلموا أنَّهم لا يستطيعون الفرار منك ، فلمَّا خرجوا قال لهم الله " مُوتُوا " ، فماتوا جميعاً ، وماتت دوابهم كموت رجل واحدٍ ، وبقوا ثمانية أيَّام ، حتَّى انتفخوا وأروحت أجسادهم ، وبلغ بني إسرائيل موتهم ، فخرجوا لدفنهم ؛ فعجزوا لكثرتهم ، فحظروا عليهم حظائر دون السِّباع ، فأحياهم الله بعد الثمانية أيَّام ، وبقي فيهم شيءٌ من ذلك النتن ، وفي أولادهم إلى هذا اليوم{[4006]} .
واحتجُّوا على هذه الرِّواية بقوله عقيب ذلك : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } [ البقرة :244 ] وقال مقاتل والكلبي كانوا قوم حزقيل ، أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيَّام ، وذلك أنه لمَّا أصابهم ذلك ، خرج حزقيل في طلبهم ، فوجدهم موتى ؛ فبكى وقال : " يا ربِّ ؛ كُنْتُ من قومٍ يحمدونَكَ ويسبِّحُونَكَ ويقدِّسُونَكَ ، ويكبِّرُونَكَ ، ويهللونَكَ ؛ فبقيت واحداً لا قوم لي " ؛ فأوحى الله إليه : إنِّي جعلت حياتهم إليك ، فقال حزقيل : احيوا بإذن الله تعالى ؛ فعاشوا{[4007]} .
قال مجاهدٌ : إنهم قالوا حين أُحيوا : سبحانك ربنا ، وبحمدك لا إله إلاّ أنت ، فرجعوا إلى قومهم ، وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوباً إلاَّ عاد دنساً مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتب لهم{[4008]} .
قال ابن عباس : إنَّها لتوجد اليوم في ذلك السِّبط من اليهود تلك الرِّيح{[4009]} .
قال الحسن : أماتهم الله قبل آجالهم عُقُوبَةً لهم ، ثم بعثهم إلى بقيَّة آجالهم{[4010]} .
قال ابن العربيّ : أماتهم الله عقوبة لهم ، ثم أحياهم ، وميتة العقوبة بعدها حياةٌ ، وميتة الأجل لا حياة بعدها .
قوله تعالى : { فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ } .
قال ابن الخطيب{[4011]} : قيل : هو من قوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل :40 ] والمراد سرعة وقوع المراد ، ولا قول هناك .
وقيل : أمر الرَّسول أن يقول لهم : " مُوتُوا " أو الملك ، والأوَّل أقرب .
قوله تعالى : { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } يقتضي أنهم أُحيوا بعد موتهم ، وذلك ممكنٌ ، وقد أخبر الصَّادق به ؛ فوجب القطع .
وقالت المعتزلة{[4012]} : إحياء الميِّت فعلٌ خارق للعَادَةِ ، ولا يجوز إظهاره إلا معجزة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
قال ابن الخطيب{[4013]} : وأصحابنا يجوّزون خرق العادة كرامةً للأولياء ، ولغير ذلك .
قالت المعتزلة{[4014]} : وهذا الإحياء ، وقع في زمن حزقيل ببركة دعائه . وهاهنا بحثٌ وهو أنَّه قد ثبت بالدَّليل أن المعارف تصير ضروريّة عند القرب من الموت ومعاينة الأهوال والشدائد ، فهؤلاء إن كانوا عاينوا تلك الأهوال الموجبة للعلم الضَّروريِّ ؛ وجب إذا عاشوا أن يبقوا ذاكرين لذلك ؛ لأن الأشياء العظيمة لا تنسى مع كمال العقل ؛ لتبقى لهم تلك العلوم ، ومع بقائها يمتنع التَّكليف كما في الآخرة ، ولا مانع يمنع من بقائهم غير مكلَّفين وإن كان جاءهم الموت بغتةً ، كالنَّوم ولم يعاينوا شدَّةَ ، ولا هولاً ، فذلك أيضاً ممكن .
وقال قتادة : إنَّما أحيوا ليستوفوا بقيَّة آجالهم{[4015]} .
قال الواحديُّ{[4016]} رحمه الله : لم يكونوا دون ثلاثة آلاف ، ولا فوق سبعين ألفاً .
والوجه من حيث اللَّفظ : أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف ؛ لأنَّ الألوف جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف ، وقيل : إنَّ الألوف جمع ألفٍ ، كقعودٍ وقاعدٍ ، وجلوسٍ ، وجالسٍ ، والمعنى : أنَّهم كانوا مؤتلفي القلوب .
قال القاضي{[4017]} : والوجه الأوَّل أولى ؛ لأنَّ ورود الموت عليهم دفعةً واحدةً ، وهم كثرةٌ عظيمةٌ ، تفيد مزيد اعتبار بحالهم ؛ لأنَّ موت الجمع العظيم دفعةً واحدةً لا يتَّفق وقوعه ، وأمَّا ورود الموت على قوم تآلفوا حب الحياة ، وبينهم ائتلافٌ ومحبةٌ كوروده وبينهم اختلاف ، فوجه الاعتبار لا يتغيَّر .
قال ابن الخطيب{[4018]} : ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد كون كلّ واحد منهم آلفاً لحياته ، محباً لهذه الدُّنيا ، فرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } [ البقرة :96 ] ، ثم إنهم مع غاية حبِّهم للحياة وألُفهم بها أماتهم الله تعالى ، وأهلكهم ليعلم أنّ حرص الإنسان على الحياة ، لا يعصمه من الموت ، فهذا القول ليس ببعيدٍ .
قال القرطبيُّ{[4019]} : الطَّاعون وزنه فاعول من الطَّعن ، غير أنَّه لما عدل به عن أصله ؛ وضع دالاً على الموت العام بالوباء . قاله الجوهريُّ . " وروت عائشة - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ " قالت : الطَّعن قد عرفناه فما الطَّاعون ، قال : " غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ{[4020]} تَخْرُجُ في المراقِّ والآبَاطِ " قال العلماء : وهذا الوباء يرسله الله نقمة ، وعقوبة على من يشاء من عصاة عبيده ، وكفرتهم ، وقد يرسله الله شهادة ، ورحمة للصَّالحين ، كقول معاذٍ في طاعون عمواس : إنَّه شهادةٌ ورحمةٌ لكم ، ودعوة نبيكم ، وهي قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذاً وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُم مِنْ رَحْمَتِكَ " {[4021]} ، فَطُعِنَ في كَفِّهِ - رضي الله عنه - .
وروى البخاريُّ : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين ذكره الوباء : " إنَّه رجزٌ ، أو عذابٌ عذِّب به بعض الأمم ، ثمَّ بقي منه بقيَّةٌ ، فيذهب المرَّة ، ويأتي الأخرى ، فمن سمع به بأرضٍ ، فلا يقدمنَّ عليه ، ومن كان بأرضٍ وقع بها ، فلا يخرج فراراً منه " وعمل عمر - رضي الله عنه - بمقتضى هذا الحديث لمَّا رجعوا من " سَرْغ " حين أخبرهم ابن عوف بهذا الحديث . وقالت عائشة - رضي الله عنها - " الفَارُّ مِنَ الوَبَاءِ كالفَارِّ مَنَ الزَّحْفِ " {[4022]} .
قال الطَّبريُّ : يجب على المرء توقّي المكاره قبل نزولها ، وتجنُّب الأشياء المخيفة قبل هجومها ، وكذلك كلّ متَّقًى من غوائل الأمور ، سبيله إلى ذلك سبيل الطَّاعون ، ونظيره قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " لاَ تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا " {[4023]} ، ولما خرج عمر - رضي الله عنه - مع أبي عبيدة إلى الشَّام فسمع عمر أنَّ الوباء بها فرجع ، فقال له أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله ، فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ؟ ! نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله ، والمعنى لا محيص للإنسان عمَّا قدَّره الله عليه ، لكن أمرنا الله من التَّحرُّز من المخاوف ، والمهلكات ، وباستفراغ الوسع في التَّوقِّي من المكروهات ، ثمَّ قال له : أرأيت لو كانت لك إبل ، فهبطت وادياً له عدوتان ، إحداهما خصبةٌ والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة ، رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة .
قوله : { إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } .
أَتَى بهذه الجملة مؤكَّدة ب " إِنْ " واللام ، وأتى بخبرٍ " إِنَّ " : " ذو " الدَّالة على الشَّرفِ بخلافِ " صاحبِ " ، و " عَلَى النَّاسِ " متعلقٌ بفَضْل تقول : تَفَضَّل فلان عليَّ ، أو بمحذوفٍ ؛ لأنه صفةٌ له فَهُوَ في محلّ جرٍّ ، أي : فضلٍ كائنٍ على النَّاسِ . وأل في النَّاسِ لِلْعمُوم . والمعنى أَنَّ هذه القِصَّة تشجع الإِنسان على الإِقدام على طاعة الله تعالى ، وتزيل على قَلبه الخَوفَ ، فكان ذِكْرُ هذه القِصَّة سبباً لبعد العبد عن المعصية ، وقربه من الطَّاعةِ ، فكان ذِكرُ هذه القصَّةِ فضلاً وإحساناً من اللهِ على عبدهِ وقيل للعهدِ والمُرادُ بهم : الَّذين أَمَاتَهُم لأنهم خرجُوا من الدُّنيا على المعصيةِ ، ثم أعادهُم إلى الدُّنيا ؛ حتى تَابُوا .
وقيل : المُرادُ بالعَهدِ أَنَّ العرب الذين كانُوا منكرين للمعاد ؛ كانوا مُتمسكين بقول اليهُود في كثير من الأُمور إذا سمِعُوا بهذه الواقعة ، فالظَّاهِرُ أَنَّهُم يرجعون من الدين الباطل الَّذِي هو الإِنكارُ إلى الدِّين الحَقّ ، وهو الإِقرار بالبعث ، فيتخلَّصُون مِنَ العقاب ، وكان ذكر هذه القصَّة ؛ فضلاً من الله في حقّ هؤلاء .
قوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ } هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قوله { إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } ؛ لأنَّ تقديره : فيجب عليهم أَنْ يَشْكُروه لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ ، والرِّزْق ، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ . وهو كقوله : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } [ الإسراء :89 ] .