تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡيَٰهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (243)

الموت والحياة بيد الله

{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون( 243 ) }

المفردات :

ألم تر : تعجب وتقرير لمن سمع بقصتهم ، وقد يخاطب به من لم ير ولم يسمع فإنه صار مثلا في التعجب .

حذر الموت : أي من حذر الموت .

المعنى الإجمالي :

تنبه أيها النبي إلى القصة العجيبة واعلمها ، وهي حالة القوم الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد ، خشية الموت فيه ، وهو ألوف كثيرة فقضى الله عليهم بالموت والهون من أعدائهم ، حتى إذا استبسلت بقيتهم ، وقامت بالجهاد أحيا الله جماعتهم به ، وإن هذه الحياة العزيزة بعد الذلة المميتة من فضل الله ، الذي يستوجب الشكران ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون .

التفسير :

{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم . . . }

المعنى : ألم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وكانوا فوق عشرة لآلاف لأن العشرة فما دونها جمع قلة ، فيقال فيها : آلاف ، ولا يقال ألوف إلا لجمع الكثرة الذي يزيد عن العشرة .

ولذا روى عن ابن عباس : أنهم كانوا أربعين ألفا ، كما في بعض الروايات عنه ، وكان خروجهم بهذه الكثرة ، خوفا من الموت وحذرا منه ، مع أن الحذر لا يمنع من القدر ، فإذا جاء أجلهم معا أو متفرقين لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون .

ويرى بعض المفسرون : أن هذه الآية الكريمة تنبئنا عن قوم من بني إسرائيل دعا إلى الجهاد في سبيل الله ، فخرجوا من ديارهم فرارا منه ، حتى لا يموتوا مع أنهم كانوا ألوفا ، فلا ينبغي لهم أن يفروا لأن من عاداتهم أن يجبنوا عن القتال ، كما حدث عندما أمرهم موسى عليه السلام بقتال الجبارين ، فقالوا له : { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون }( المائدة : 24 ) . فأماتهم الله جميعا عقابا لهم على فرارهم ، ثم أحياهم ليبين لهم قدرة الله عليهم ، وأنه لا ينفعهم الفرار من القتال ، إن كان الموت فيه مكتوبا عليهم ، فقد يموت المرء بدون قتال ، كما حدث لهم .

ويقول صاحب هذا الرأي : إنه تعالى بعد أن أحياهم أمرهم بالقتال فقال لهم : { وقاتلوا في سبيل الله } ( البقرة : 244 ) لعلهم يعتبرون بذلك فيخلصون في الجهاد .

وقال ابن عطية منكرا لهذا وأمثاله من القصص : وهذا القصص كله لين الأسانيد ، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف ، عن قوم من البشر ، خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، فأماتهم الله ثم أحياهم ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر . وقد جعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد . هذا قول الطبري . وهو ظاهر معنى الآية .

ويرى الشيخ محمد عبده : أن هذا مثل لا قصة واقعية ، وأن الموت هنا مجازي .

وخلاصة رأيه : أن هؤلاء القوم فروا أمام أعدائهم دون قتال ، وتركوا أوطانهم غنيمة للأعداء ، فعاشوا أذلاء مشردين ، في حياة أشبه بالموت ، فلما عرفوا جنايتهم على أنفسهم عادوا إلى جهاد أعدائهم وتحرير أوطانهم ، فاستردوا كرامتهم وعاشوا حياة كريمة جديرة بالمجاهدين الأبطال .

ويرى آخرون : أنها تتحدث عن قوم نزل ببلادهم وباء الطاعون ، فعمها بأسباب الموت فظنوا أن فرارهم من هذا الوباء سيكفل لهم النجاة من الموت ، فأماتهم الله عقابا لهم ، فلكل أجل عند الله كتاب وقدر ، وقد فاتهم أنهم سينقلون معهم وباء الطاعون ، إلى بلاد خالية منه وتلك جريمة أخرى . وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن هذا السقم ، عذب به الأمم قبلكم ، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه ، أخرجه الإمام عن عمر . وللشيوخ نحوه .

وهذا الإرشاد منه صلى الله عليه وسلم مطابق لأحدث النظم الصحية وهو ما يعرف اليوم بالحجر الصحي .

والتعبير بقوله تعالى : { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } . إما على ظاهره ، وإما مجاز عن تعلق إرادة الله تعالى بموتهم دفعة واحدة .

وقيل : هو تمثيل لإماتتهم ميتة نفس واحدة ، في أسرع زمان ، بأمر مطاع لمأمور مطيع .

والله يعلم مقدار المدة التي ظلوا فيها أمواتا . ولكنها لابد متراخية فترة عن إماتتهم ، كما يوحي به العطف ب ثم في قوله تعالى : { ثم أحياهم } : أي ثم أعادهم الله إلى الحياة مرة أخرى . بعد فترة موت ليستوفوا آجالهم ، وليؤمنوا بقضاء الله وقدره ، وليكووا عبرة يعتبرون بها هم وغيرهم ، وليظل فضل الله الذي عبر عنه قوله تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس } . بما أنعم عليهم من نعمة الخلق ونعمة البقاء والرزق ، وبما يريهم من الآيات الباهرة ، والحجج القاطعة التي تنفعهم في دينهم .

وبين الأستاذ سيد قطب الحكمة المقصودة بقوله : " إن الحذر من الموت لا يجدي ، وإن الفزع والهلع لا يزيدان الحياة ولا يمدان أجلا ولا يردان قضاء ، وإن الله هو واهب لحياة وهو آخذ الحياة وأنه متفضل في الحالتين حين يهب ، وحين يسترد ، والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد ، وأن مصلحة الناس متحققة في هذا وذك ، وأن فضل الله متحقق في الأخذ والمنح سواء " ( 296 ) .

{ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون }

أي أن الله تعالى لصاحب تفضل دائم على الناس حيث أوجدهم بهذه الصورة الحسنة ، وخلق لهم عقولا ليهتدوا به إلى طريق الخير ، وسخر لهم الكثير مما في هذا الكون ، فمن الواجب عليهم أن يشكروه وأن يطيعوه ، ولكن الذي حدث منهم أن أكثرهم لا يشكرون اله تعالى على ما منحهم من نعم .

وفي قوله : { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } . إنصاف للقلة الشاكرة منهم ومديح لهم على استقامتهم وقوة إيمانهم .

* * *