فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡيَٰهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (243)

( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ) الاستفهام هنا للتقرير ، والرؤية المذكورة هي رؤية القلب لا رؤية البصر ، والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين خرجوا ، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين كذا قيل .

وحاصله أن الرؤية هنا التي بمعنى الإدراك مضمنة معنى التنبيه . ويجوز أن تكون مضمنة معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك إليهم ، أو معنى الوصول أي ألم يصل علمك إليهم ، ويجوز أن تكون بمعنى الرؤية البصرية أي ألم تنظر إلى الذين خرجوا ، وهم قوم من بني إسرائيل .

جعل الله سبحانه قصة هؤلاء لما كانت بمكان من الشيوع والشهرة يحمل كل أحد على الإقرار بها بمنزلة المعلومة لكل فرد أو المبصرة لكل مبصر ، لأن أهل الكتاب قد أخبروا بها ودونوها و أشهروا أمرها ، والخطاب هنا لكل من يصلح له ، والكلام جار مجرى المثل في مقام التعجب ادعاء لظهوره وجلائه بحيث يستوي في إدراكه الشاهد والغائب ، قاله السعد التفتازاني وقيل الخطاب للنبي صلي الله عليه وسلم خاصة والعموم أولى .

( وهم ألوف ) قيل ثلاثة آلاف أو أربعة وقيل عشرة آلاف ، وقيل بضع وثلاثون ألفا ، وقيل أربعون ألفا ، وقيل سبعون ألفا ، وأصح الأقوال قول من قال إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف ، لأن الألوف من جموع الكثرة وحقيقته ما فوق العشرة ، قاله القرطبي فدل على أنها ألوف كثيرة وجمع القليل آلاف ، وقيل جمع ألف أو آلف كقاعد وقعود ، والمعنى مؤتلفون والأول أولى والواو للحال .

( حذر الموت ) أي مخافة الطاعون ، وكان قد نزل بهم ، وقيل إنهم أمروا بالجهاد ففروا منه حذر الموت ( فقال لهم الله موتوا ) أمر تكوين وتحويل وهو عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة ، أو تمثيل لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة كأنهم أمروا فأطاعوا فماتوا ( ثم أحياهم ) يعني بعد موتهم بدعاء نبيهم حزقيل بعد ثمانية أيام أو أكثر فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن واستمر في أسباطهم .

( إن الله لذو فضل ) التنكير للتعظيم أي لذو فضل عظيم ( على الناس ) جميعا فيجب عليهم شكره ، أما هؤلاء الذين خرجوا فلكونه أحياهم ليعتبروا وأما المخاطبون فلكونه قد أرشدهم إلى الاعتبار والاستبصار بقصة هؤلاء .

قال ابن عباس : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا نأتي أرضا ليس بها موت ، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال لهم الله موتوا فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم ، وإن القرية التي خرجوا منها داوردان ، قيل هو حزقيل ، ويقال له ابن العجوز ، ويقال له ذو الكفل وهو ثالث خليفة في بني اسرائيل ، لأن موسى بعده يوشع ثم كالب ثم حزقيل .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم هذه القصة مطولة عن أبي مالك وفيها أنهم بضعة وثلاثون ألفا ، وقال سعيد بن عبد العزيز : إن ديارهم هي أذرعات ، وعن صالح قال كانوا تسعة آلاف ، و أخرج جماعة من محدثي المفسرين هذه القصة على انحاء ولا يأتي الاستكثار من طرقها بفائدة .

وقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم النهي عن الفرار من الطاعون وعن دخول الأرض التي هو بها من حديث عبد الرحمن بن عوف{[241]} .

( ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) يعني أن أكثر من أنعم الله عليه لا يشكر .


[241]:قال ابن الجوزي في زاد المسير 288 روى حصين بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال: كانت أمة من بني إسرائيل إذا وقع فيهم الوجع، خرج أغنياؤهم، وأقام فقراؤهم، فمات الذين أقاموا، ونجا الذين خرجوا،فقال الأشراف: لو أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا، وقال الفقراء، لو ظعنا كما ظعن هؤلاء سلمنا، فأجمع رأيهم في بعض السنين على ان يظعنوا جميعا، فظعنوا فماتوا، وصاروا عظاما تبرق ، فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم، فمر بهم نبي من الأنبياء، فقال: يارب لو شئت أحييتهم،فعبدوك، وولدوا أولادا يعبدونك، ويعمرون بلادك. [قال: أو أب إليك أن أفعل؟ قال: نعم]. فقيل له:تكلم بكذا وكذا، فتكلم به، فنظر الى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها إلى التي هي منها، ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا، فنظر فإذا هم قعود يسبحون الله ويقدسونه. وأنزل الله فيهم هذه الآية. وهذا الحديث يدل على بعد المدة التي مكثوا فيها أمواتا. وفي بعض الأحاديث: أنهم بقوا أمواتا سبعة أيام، وقيل: ثمانية أيام.