التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا} (15)

{ من اهتدى فإنما يعتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى }

هذه الجملة بيان أو بدل اشتمال من جملة { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } مع توابعها . وفيه تبيين اختلاف الطائر بين نافع وضار ، فطائر الهداية نفع لصاحبه وطائر الضلال ضر لصاحبه . ولكون الجملة كذلك فصلت ولم تعطف على التي قبلها .

وجملة { ولا تزر وازرة وزر أخرى } واقعة موقع التعليل لمضمون جملة { ومن ضل فإنما يضل عليها } لما في هذه من عموم الحكم فإن عَمل أحد لا يُلحق نفعُه ولا ضَره بغيره .

ولما كان مضمون هذه الجملة معنى مهما اعتبر إفادة أنفاً للسامع ، فلذلك عطفت الجملة ولم تُفصل . وقد روعي فيها إبطال أوهام قوم يظنون أن أوزارهم يحملها عنهم غيرهم . وقد روي أن الوليد بن المغيرة وهو من أيمة الكفر كان يقول لقريش : اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم ، أي تبعاتكم ومؤاخذتكم بتكذيبه إن كان فيه تبعة . ولعله قال ذلك لما رأى ترددهم في أمر الإسلام وميلهم إلى النظر في أدلة القرآن خشية الجزاء يوم البعث ، فأراد التمويه عليهم بأنه يتحمل ذنوبهم إن تبين أن محمداً على حق ، وكان ذلك قد يروج على دهمائهم لأنهم اعتادوا بالحملات والكفالات والرهائن ، فبين الله للناس إبطال ذلك إنقاذاً لهم من الاغترار به الذي يهوي بهم إلى المهالك مع ما في هذا البيان من تعليم أصل عظيم في الدين وهو { ولا تزر وازرة وزر أخرى } . فكانت هذه الآية أصلاً عظيماً في الشّريعة ، وتفرع عنها أحكام كثيرة .

ولمّا روى ابن عمر عن النّبيء صلى الله عليه وسلم " أنّ الميت ليعذّب ببكاء أهله عليْه " قالت عائشة رضي الله عنها : « يرحم الله أبا عبد الرحمان ، ما قال رسول الله ذلك والله يقول : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } .

ولما مُرّ برسول الله جنازةُ يهودية يبكي عليها أهلها فقال : « إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب » .

والمعنى أن وزر أحد لا يحمله غيره فإذا كان قد تسبب بوزره في إيقاع غيره في الوِزر حُمل عليْه وزر بوزر غيره لأنه متسبب فيه ، وليس ذلك بحمل وزر الغير عليه ولكنه حمل وزر نفسه عليها وهو وزر التسبب في الأوزار . وقد قال تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ، وكذلك وزر من يَسُنّ للناس وزراً لم يكونوا يعملونه من قبل . وفي « الصحيح » : « مَا من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوللِ كِفْل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل » .

وسكتت الآية عن أن لا ينتفع أحد بصالح عمل غيره اكتفاء إذ لا داعي إلى بيانه لأنه لا يوقع في غرور ، وتعلم المساواة بطريق لحن الخطاب أو فحواه ، وقد جاء في القرآن ما يومىء إلى أن المتسبب لأحد في هدي ينال من ثواب المهتدي قال تعالى : { واجعلنا للمتقين إماماً } [ الفرقان : 74 ] وفي الحديث : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير .

ومن التخليط توهم أن حمل الدية في قتل الخطأ على العاقلة مناففٍ لهذه الآية ، فإن ذلك فرع قاعدة أخرى وهي قاعدة التعاون والمواساة وليست من حمل التبعات .

و{ تزر } تحمل الوزر ، وهو الثقل . والوازرة : الحاملة ، وتأنيثها باعتبار أنها نفس لقوله قبله { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } [ فصّلت : 46 ] .

وأطلق عليها { وازرة } على معنى الفرض والتقدير ، أي لو قدرت نفس ذات وزر لا تزاد على وزرها وزر غيرها ، فعلم أن النفس التي لا وزر لها لا تزر وزر غيرها بالأوْلى .

والوزر : الإثم لتشبيهه بالحمل الثقيل لما يجره من التعب لصاحبه في الآخرة ، كما أطلق عليه الثقل ، قال تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [ العنكبوت : 13 ] .

{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }

عطف على آية { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } الآية .

وهذا استقصاء في الإعذار لأهل الضلال زيادة على نفي مؤاخذتهم بأجرام غيرهم ، ولهذا اقتصر على قوله : { وما كنا معذبين } دون أن يقال ولا مثيبين . لأن المقام مقام إعذار وقطع حجة وليس مقام امتنان بالإرشاد .

والعذاب هنا عذاب الدنيا بقرينة السياق وقرينة عطف { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } [ الإسراء : 16 ] الآية . ودلت على ذلك آيات كثيرة ، قال الله تعالى : { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين } [ الشعراء : 209 ] وقال : { فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } [ يونس : 47 ] .

على أن معنى ( حتى ) يؤذن بأن بعثة الرسول متصلة بالعذاب شأن الغاية ، وهذا اتصال عرفي بحسب ما تقتضيه البعثة من مدةٍ للتبليغ والاستمرار على تكذيبهم الرسول والإمهال للمكذبين ، ولذلك يظهر أن يكون العذاب هنا عذاب الدنيا وكما يقتضيه الانتقال إلى الآية بعدها .

على أننا إذا اعتبرنا التوسع في الغاية صح حمل التعذيب على ما يعم عذاب الدنيا والآخرة .

ووقوع فعل { معذبين } في سياق النفي يفيد العموم ، فبعثة الرسل لتفصيل ما يريده الله من الأمة من الأعمال .

ودلت الآية على أن الله لا يؤاخذ الناس إلا بعد أن يرشدهم رحمة منه لهم . وهي دليل بين على انتفاء مؤاخذة أحد ما لم تبلغه دعوة رسول من الله إلى قوم ، فهي حجة للأشعري ناهضة على الماتريدي والمعتزلة الذين اتفقوا على إيصال العقل إلى معرفة وجود الله ، وهو ما صرح به صدر الشريعة في التوضيح في المقدمات الأربع . فوجود الله وتوحيده عندهم واجبان بالعقل فلا عذر لمن أشرك بالله وعطل ولا عذر له بعد بعثة رسول .

وتأويل المعتزلة أن يراد بالرسول العقل تطوُّحٌ عن استعمال اللغة وإغماض عن كونه مفعولاً لفعل { نبعث } إذ لا يقال بعث عقلاً بمعنى جعل . وقد تقدم ذلك في تفسير قوله تعالى : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } في سورة [ النساء : 165 ] .