التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{مَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لَأٓتٖۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (5)

هذا مسوق للمؤمنين خاصة لأنهم الذين يرجون لقاء الله ، فالجملة مفيدة التصريح بما أومأ إليه قوله { أن يسبقونا } [ العنكبوت : 4 ] من الوعد بنصر المؤمنين على عدوّهم مبينة لها ولذلك فصلت . ولولا هذا الوقع لكان حق الإخبار بها أن يجيء بواسطة حرف العطف . ورجاء لقاء الله : ظنّ وقوع الحضور لحساب الله .

و { لقاء الله } : الحشر للجزاء لأن الناس يتلقون خطاب الله المتعلق بهم ، لهم أو عليهم ، مباشرة بدون واسطة ، وقد تقدم في قوله { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } [ البقرة : 46 ] وقوله { واعلموا أنكم ملاقوه } في سورة [ البقرة : 223 ] .

و { أجل الله } يجوز أن يكون الوقت الذي عينه الله في علمه للبعث والحساب فيكون من الإظهار في مقام الإضمار ، ومقتضى الظاهر أن يقال : فإنه لآتتٍ فعدل إلى الإظهار كما في إضافة { أجل } إلى اسم الجلالة من الإيماء إلى أنه لا يخلف . والمقصود الاهتمام بالتحريض على الاستعداد . ويجوز أن يكون المراد ب { أجل الله } الأجل الذي عيَّنه الله لنصر المؤمنين وانتهاء فتنة المشركين إياهم باستئصال مساعير تلك الفتنة ، وهم صناديد قريش وذلك بما كان من النصر يوم بدر ثم ما عقبه إلى فتح مكة فيكون الكلام تثبيتاً للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين حين استبطأ المؤمنون النصر للخلاص من فتنة المشركين حتى يعبدوا الله لا يفتنوهم في عبادته . والمعنى عليه : إن كنتم مؤمنين بالبعث إيقاناً ينبعث من تصديق وعد الله به فإن تصديقكم بمجيء النصر أجدر لأنه وعدكم به ، ف { من } شرطية ، وجعل فعل الشرط فعل الكون للدلالة على تمكن هذ الرجاء من فاعل فعل الشرط .

ولهذا كان قوله { فإن أجل الله لآت } جواباً لقوله { من كان يرجو لقاء الله } باعتبار دلالته على الجواب المقدر ليلتئم الربط بين مدلول جملة الشرط ومدلول جملة الجزاء . ولولا ذلك لاختلّ الربط بين الشرط والجزاء إذ يفضي إلى معنى من لم يكن يرجو لقاء الله فإن أجل الله غير آتتٍ . وهذا لا يستقيم في مجاري الكلام فلزم تقدير شيء من باب دلالة الاقتضاء .

وتأكيد جملة الجزاء بحرف التوكيد على الوجه الأول للتحريض والحث على الاستعداد للقاء الله ، وعلى الوجه الثاني لقصد تحقيق النصر الموعود به تنزيلاً لاستبطائه منزلة التردد لقصد إذكاء يقينهم بما وعد الله ولا يوهنهم طول المدة الذي يضخمه الانتظار . وبهذا يظهر وقع التذييل بوصفي { السميع العليم } دون غيرهما من الصفات العُلَى للإيماء بوصف { السميع } إلى أن الله تعالى سمع مقالة بعضهم من الدعاء بتعجيل النصر كما أشار إليه قوله تعالى { وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله } [ البقرة : 214 ] . وكقول النبي صلى الله عليه وسلم « اللهم أنجِ عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف » .

والإيماء بوصف { العليم } إلى أن الله علم ما في نفوسهم من استعجال النصر ولو كان المراد من { أجل الله } الموتَ لَمَا كان وجه للإعلام بإتيانه بَلْهَ تأكيده ، وكذا لو كان المراد منه البعث لكان قوله { من كان يرجو لقاء الله } كافياً ، فهذا وجه ما أشارت إليه الآيات بالمنطوق والاقتضاء ، والعدول بها عن هذا المهيع وإلى ما في « الكشاف » و« مفاتيح الغيب » أخذاً من كلام أبي عبيدة تحويل لها عن مجراها وصرف كلمة الرجاء عن معناها وتفكيك لنظم الكلام عن أن يكون آخذاً بعضه بحُجز بعض .

وإظهار اسم الجلالة في جملة { فإن أجل الله لآت } مع كون مقتضى الظاهر الإضمار لتقدم اسم الجلالة في جملة الشرط { من كان يرجو لقاء الله } لئلا يلتبس معاد الضمير بأن يُعاد إلى { من } إذ المقصود الإعلام بأجل مخصوص وهو وقت النصر الموعود كما في قوله تعالى { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } [ سبأ : 29 ، 30 ] .

وعبّر بفعل الرجاء عن ترقب البعث لأن الكلام مسوق للمؤمنين وهم ممن يرجو لقاء الله لأنهم يترقبون البعث لما يأملون من الخيرات فيه . قال بلال رضي الله عنه حين احتضاره متمثلاً بقول بعض الأشعريين الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم :

غداً ألقَى الأحبهْ *** محمداً وصحبهْ