التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{مَا يُبَدَّلُ ٱلۡقَوۡلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَا۠ بِظَلَّـٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ} (29)

فالمعنى الأول المكنّى عنه بُيِّن بجملة { ما يبدل القول لدى } ، أي لست مبطلاً ذلك الوعيد ، وهو القول ، إذ الوعيد من نوع القول ، والتعريف للعهد ، أي فما أوعدتكم واقع لا محالة لأن الله تعهد أن لا يغفر لمن يشرك به ويموت على ذلك . والمعنى الثاني المكنَّى عنه بُين بجملة { وما أنا بظلام للعبيد } ، أي فلذلك قدمت إليكم الوعيد .

والمبالغة التي في وصف { ظلاّم } راجعة إلى تأكيد النفي .

والمراد : لا أظلم شيئاً من الظلم ، وليس المعنى : ما أنا بشديد الظلم كما قد يستفاد من توجُّه النفي إلى المقيّد يفيد أن يتوجه إلى القيد لأن ذلك أغلبي . والأكثر في نفي أمثلة المبالغة أن يقصد بالمبالغة مبالغة النفي ، قال طرفة :

ولسْتُ بحَلاَّل التلاع مخافة *** ولكن متى يسترفد القوم أرفِد

فإنه لا يريد نفي كثرة حلوله التلاع وإنما أراد كثرة النفي .

وذكر الشيخ في « دلائل الإعجاز » توجه نفي الشيْء المقيد إلى خصوص القيد كتوجّه الإثبات سواء ، ولكن كلام التفتزاني في كتاب « المقاصد في أصول الدين » في مبحث رؤية الله تعالى أشار إلى استعمالين في ذلك ، فالأكثرُ أن النفي يتوجه إلى القيد فيكون المنفي القيد ، وقد يعتبر القيد قيداً للنفي وهذا هو التحقيق . على أني أرى أن عَدّ مثل صيغة المبالغة في عِداد القيود محل نظر فإن المعتبر من القيود هو ما كان لفظاً زائداً على اللفظ المنفي من صفة أو حال أو نحو ذلك ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال : لست ظَلاّماً ، ولكن أظلم ، ويحسن أن يقال لا آتيك محارباً ولكن مسالماً .

وقد أشار في « الكشاف » إلى أن إيثار وصف { ظَلاّم } هنا إيماء إلى أن المنفي لو كان غير منفي لكان ظلماً شديداً فيفهم منه أنه لو أخذ الجاني قبلَ أن يَعرَّف أن عمله جناية لكانت مؤاخذته بها ظلماً شديداً . ولعل صاحب « الكشاف » يرمي إلى مذهبه من استواء السيئات ، والتعبير بالعبيد دون التعبير بالناس ونحوه لزيادة تقرير معنى الظلم في نفوس الأمة ، أي لا أظلم ولو كان المظلوم عبدي فإذا كان الله الذي خلق العباد قد جعل مؤاخذة من لم يسبق له تشريع ظلماً فما بالك بمؤاخذة الناس بعضهم بعضاً بالتبعات دون تقدّم إليهم بالنهي من قبل ، ولذلك يقال : لا عقوبة إلا على عمل فيه قانون سابق قبل فعله .