محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{مَا يُبَدَّلُ ٱلۡقَوۡلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَا۠ بِظَلَّـٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ} (29)

{ ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد 29 } .

{ ما يبدل القول لدي } قال ابن جرير :{[6770]} أي ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا وهو قوله : { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } ، ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها .

{ وما أنا بظلام للعبيد } أي فلا أعذب أحدا بذنب غيره ، ولكن بذنبه بعد قيام الحجة عليه .

وقال القاشانيّ : { وما أنا بظلام } حيث وهبت الاستعداد ، وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكتسابه ، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه ، وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة ، واستبدال ما يفنى بما يبقى .

/ تنبيهات :

الأول – ظاهر الآيات أن هذا التقاول على حقيقته ، إذ لا مانع منها . وذهب بعض المفسرين إلى أنها مجاز .

قال القاشانيّ : هذا المقاولات كلها معنوية ، مثلت على سبيل التخييل والتصوير ، لاستحكام المعنى في القلب ، عند ارتسام مثاله في الخيال . فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان ، وإنكار الشيطان إياه ، عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه : الوهمية والعقلية ، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه : كالغضبية والشهوية مثلا . ولهذا قال : { لا تختصموا } ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية ، كان أصل التخاصم بينهما . وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر ، لتوقع نفع أو لذة ، يتوقفان ما دام مطلوبهما حاصلا ، فإذا حرما أوقعا بسعيهما في خسران وعذاب ، تدارءا ، أو نسب كل منهما التسبب في ذلك إلى الآخر ، لاحتجابهما عن التوحيد ، وتبرؤ كل منهما عن ذنبه ، لمحبة نفسه . ولذلك قال حارثة رضي الله عنه للنبي عليه السلام : " ورأيت أهل النار يتعاورون " . وصوّب عليه السلام قوله . انتهى .

الثاني إن قلت : لم طرحت الواو من جملة { قال قرينه } وذكرت في الأولى ؟ قلت : لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول ، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون .

فإن قلت : أين المقاولة ؟ قلت : لما قال قرينه { هذا ما لدي عتيد } وتبعه قوله : { قال قرينه ربنا ما أطغيته } وتلاه { لا تختصموا } – علم أن ثمَّ مقاولة من الكافر ، لكنها طرحت للدلالة عليها من السياق كأنه لما قال القرين : هذا ما لديّ عتيد ، قال الكافر : رب هو أطغاني ، فلما قال الكافر ذلك ، قال القرين : ما أطغيته ، فلما حكى قول القرين والكافر ، كأن قائلا يقول : فماذا قال الله تعالى ؟ فقيل : قال لا تختصموا لديّ . وذكر الواو في الجملة / الأولى لأنها أول المقاولة ، ولا بد من عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين ، وقول قرينه ما قال له – هذا ملخص ما في ( الكشاف )- .

الثالث- جوز قوله تعالى : { بالوعيد } أن تكون الباء زائدة في المفعول ، وأن يكون حالا من الفاعل أو المفعول ، والباء للملابسة ، أو المعية . والمعنى : قدمت هذا القول موعدا لكم به ، أو حال كون القول ملتبسا بالوعيد ، أو من { لا تختصموا } على تأويل تقديم الوعيد بالعلم به . أي : لا تختصموا عالمين به . وذلك لتصح الحالية ، ويكون بينها وبين عاملها مقارنة على اصطلاحهم .

الرابع – دل قوله تعالى : { ما يبدل القول لدي } على أنه لا خلف في إيعاد الله تعالى ، كما لا إخلاف في ميعاد الله . وهذا يرد على المرجئة ، حيث قالوا : ما ورد في القرآن من الوعيد فهو تخويف ، لا يحقق الله شيئا منه ، وقالوا : الكريم إذا وعد أنجز ووفّى ، وإذا أوعد أخلف وعفا – أفاده الرازيّ- .

ووجه الاستدلال أنه لو صح ما ذكروه للزم تبديل قوله تعالى ، والخلف في أخباره – تقدس عن ذلك- مع أن طبيعة الذنب تقتضي العقوبة ، إلا أن يتاب منه ، أو يشاء تعالى العفو عنه .

الخامس – ذكروا في سر المبالغة في { بظلام } وجوها :

منها- أن ( فعّالا ) قد ورد بمعنى ( فاعل ) ، فهذا منه .

ومنها اعتبار كثرة الخلق .

ومنها- أن المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم تحت ظلمهم ، إن عظيما فعظيم ، وإن قليلا فقليل . فلما كان ملك الله تعالى على كل شيء ملكه ، قدس ذاته عما يتوهم مخذول ، والعياذ بالله ، أنه منسوب إليه من ظلم تحت شمول كل موجود .


[6770]:انظر الصفحة رقم 168 من الجزء السادس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(