التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَهُمۡ يَنۡهَوۡنَ عَنۡهُ وَيَنۡـَٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (26)

عطف على جملة { ومنهم من يستمع إليك } ، والضميران المجروران عائدان إلى القرآن المشار إليه باسم الإشارة في قولهم : { إن هذا إلاّ أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] . ومعنى النهي عنه النهي عن استماعه . فهو من تعليق الحكم بالذات . والمراد حالة من أحوالها يعيّنها المقام . وكذلك الناي عنه معناه النأي عن استماعه ، أي هم ينهون الناس عن استماعه ويتباعدون عن استماعه . قال النابغة :

لقد نَهَيتُ بني ذبيانَ عن أُقُر *** وعن تربّعهم في كلّ أصفار

يعني نهيتهم عن الرعي في ذي أقر ، وهو حمى الملك النعمان بن الحارث الغسّاني .

وبين قوله : { ينهون وينأون } الجناس القريب من التمام .

والقصر في قوله : { وإنْ يهْلِكُون إلاّ أنْفسهم } قصر إضافي يفيد قلب اعتقادهم لأنّهم يظنّون بالنهي والنأي عن القرآن أنّهم يضرّون النبي صلى الله عليه وسلم لئلاّ يتّبعوه ولا يتّبعه الناس ، وهم إنّما يُهلكون أنفسهم بدوامهم على الضلال وبتضليل الناس ، فيحملون أوزارهم وأوزار الناس ، وفي هذه الجملة تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام وأنّ ما أرادوا به نكايته إنّما يضرّون به أنفسهم .

وأصل الهلاك الموت . ويطلق على المضرّة الشديدة لأنّ الشائع بين الناس أنّ الموت أشدّ الضرّ . فالمراد بالهلاك هنا ما يلقونه في الدنيا من القتل والمذلّة عند نصر الإسلام وفي الآخرة من العذاب .

والنأي : البعد . وهو قاصر لا يتعدّى إلى مفعول إلاّ بحرف جرّ ، وما ورد متعدّياً بنفسه فذلك على طريق الحذف والإيصال في الضرورة .

وعقّب قوله : { وإن يهلكون إلاّ أنفسهم } بقوله : { وما يشعرون } زيادة في تحقيق الخطأ في اعتقادهم ، وإظهاراً لضعف عقولهم مع أنّهم كانوا يعدّون أنفسهم قادة للناس ، ولذلك فالوجه أن تكون الواو في قوله : { وما يشعرون } للعطف لا للحال ليفيد ذلك كون ما بعدها مقصوداً به الإخبار المستقلّ لأنّ الناس يعُدّونهم أعظم عقلائهم .