الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَهُمۡ يَنۡهَوۡنَ عَنۡهُ وَيَنۡـَٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (26)

قوله تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } : في الضميرين - أعني هم وهاء " عنه " - أوجه ، أحدها : أن المرفوع يعود على الكفار ، والمجرور يعود على القرآن ، وهو أيضاً الذي عاد عليه الضميرُ المنصوب من " يَفْقهوه " ، والمشارُ إليه بقولهم : " إنْ هذا " والثاني : أنَّ " هم " يعود على مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم مِن الكفار ، وفي " عنه " يعود على الرسول ، وعلى هذا فقيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة ، فإن قوله : { جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } خطاب للرسول ، فخرج من هذا الخطاب إلى الغَيْبة . وقيل : يعود على المرفوع على أبي طالب وأتباعه .

وفي قوله { يَنْهَوْنَ } و { وَيَنْأَوْنَ } تجنيس التصريف ، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهَوْن انفردت بالهاء ، ويَنْأَوْن بالهمزة ، ومثله قوله تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 104 ] { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ . . . . . . وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ] وقوله عليه السلام : " الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ " وبعضهم يسمِّيه " تجنيس التحريف " وهو الفرق بين كلمتين بحرف ، وأنشدوا :

إنْ لم أشُنَّ على أبن حرب غارةً *** لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ

وذكر غيره أن تجنيسَ التحريف هو أن يكون الشكل فرقاً بين كلمتين ، وجعل منه " اللُّهى تفتح اللَّهى " وقد تقدم تحقيق ذلك . وقرأ الحسن البصري " ويَنَوْن " بإلقاء حركة الهمزة على النون وحذفها ، وهو تخفيف قياسي . والنَّأيُ : البُعْد ، قال :

إذا غيَّر النأيُ المُحِبِّين لم يَزَلْ *** رَسِيسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يبرحُ

وقال آخر :

ألا حَبَّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ *** وهندٌ أتى مِنْ دونها النأيُ البعدُ

عطف الشيء على نفسه للمغايرة اللفظية ، يقال : نأى زيد يَنْأى نأياً ، ويتعدَّى بالهمزة فيقال : أَنْأيْتُه ، ولا يُعَدَّى بالتضعيف ، وكذا كلُّ ما كان عينه همزة . ونقل الواحدي أنه يقال : نَأَيْتُه بمعنى نَأَيْتُ عنه ، أنشد المبردِ :

أعاذِلُ إن يُصْبحْ صَداي بقَفْرَةٍ *** بعيداً نآني صاحبي وقريبي

أي : نأى عني . وحكى اللَّيث : " نَأَيْت الشيء " أي : أبعدته ، وأنشد :

إذا ما التَقَيْنا سالَ من عَبَراتنا *** شآبيب يُنْآى سَيْلُها بالأصابع

فبناه للمفعول أي : يُنَحَّى ويُبْعَد . والحاصلُ أن هذه المادةَ تدلُّ على البُعْد ، ومنه : أَتَنَأَّى أي : أفتعلُ النَّأيَ . والمَنْأى : الموضع البعيد ، قال النابغة :

فإنَّك كالموتِ الذي هو مُدْرِكي *** وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتأى عنك واسعُ

وتناءَى : تباعَدَ ، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرة التي حول الخِباء لتُبْعِدَ عنه الماء . وقُرِئ : { وناءَ بجانبه } وهو مقلوبٌ مِنْ نأى ، ويدل على ذلك أن الأصلَ هو المصدرُ وهو النَّأْيُ بتقديم الهمزة على حرف العلة .

قوله : { وَإِن يُهْلِكُونَ } " إنْ " نافيةٌ كالتي في قوله : { إِنْ هَذَآ }

[ الأنعام : 25 ] ، و " أنفسهم " مفعولٌ ، وهو استثناء مفرغ ، ومفعول " يَشْعرون " محذوف : إمَّا اقتصاراً وإمَّا اختصاراً ، أي : وما يشعرون أنهم يُهْلكون أنفسَهم .