اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَهُمۡ يَنۡهَوۡنَ عَنۡهُ وَيَنۡـَٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (26)

قوله : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } في الضميرين- أعني " هم " وهاء " عنه " - أوجه :

أحدها : أن المرفوع يعود على الكُفَّارِ ، والمجرور يعود على القرآن الكريم ، وهو أيضاً الذي عَادَ عليه الضَّميرُ المَنْصُوب من " يَفْقَهُوه " ، والمُشَارُ إليه بقولهم : " إنْ هَذَا " .

والثاني : أنَّ " هم " يعود على من تَقدَّمَ ذكرهم من الكُفَّار ، وفي " عنه " يعود على الرسول ، وعلى هذا ففيه الْتِفَاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبَةِ ، فإن قوله : { جَاءُوَكَ يُجَادلونك } خطابٌ للرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام ، فخرج من هذا الخطاب إلى الغَيْبَةِ .

وقيل : يعود المرفوع على أبي طالب وأتْبَاعِهِ .

وفي قوله : " يَنْهَوْنَ " و " يَنْأوْنَ " تَجْنِيسُ التصريف ، وهو عِبَارةٌ عن انفراد كل كلمة عن الأخرى بحرف ف " ينهون " انفردت بالهاء ، و " يَنْأوْن " بالهمزة ، ومثله قوله تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف :104 ] { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُون } [ غافر :75 ] .

وقوله عليه الصلاة والسلام : " الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيْهَا الخَيْرُ " {[13530]} ، وبعضهم يسميه " تجنيس التَّحْرِيف " وهو الفرق بين كلمتين بحرف وأنشدوا في ذلك قول القائل : [ الكامل ]

إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً *** لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهابِ نُفُوسِ{[13531]}

وذكر غيره أن " تجنيس التحريف " هو أن يكون الشَّكْلُ فرقاً بين كلمتين ، وجعل منه " اللُّهَى تفتح اللَّهى " وقد تقدَّم تحقيقه .

وقرأ الحسن{[13532]} " ويَنَوْن " بإلقاء حركة الهمزة على النون وحذفها ، وهو تخفيف قياسي .

و " النَّأيُ " : البُعْدُ ، قال : [ الطويل ]

إذَا غَيَّرَ النَّأيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَزَلْ *** رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ{[13533]}

وقال الآخر في ذلك ، فأجَادَ ، [ الطويل ]

ألاَ حَبَّذا هِنْدٌ وأرْضٌ بِهَا هِنْدُ *** وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّايُ والبُعْدُ{[13534]}

عطف الشيء على نفسه للمُغَايَرَةَ اللَّفْظيَّة يقال : نَأى زيد يَنْأى نَأياً ، ويتعدَّى بالهمزة ، فيقال : أنْأيْتُهُ ، ولا يُعَدَّى بالتضعيف ، وكذا كل ما كان عينه همزةً .

ونقل الواحدي أنه يقال : نَأيْتهُ بمعنى نَأيْتُ عنهُ .

وأنشد المُبَرِّدُ : [ الطويل ]

أعَاذِلُ إنْ يُصْبِحْ صَدَاي بِقَفْرَةٍ *** بَعيداً نآنِي صَاحِبِي وَقَريبِى{[13535]}

أي : نَأى عَنِّي .

وحكى اللَّيْثُ : " نَأيْتُ الشيء " ، أي : أبْعَدْتُهُ ، وأنشد : [ الطويل ]

إذَا مَا الْتَقَيْنَا سَالَ مِنْ عَبَرَاتِنَا *** شَآبيبُ يُنْأى سَيْلُهَا بالأصَابِع{[13536]}

فَبَنَاهُ للمفعول ، أي : يُنَحِّى ويُبْعَدُ .

والحاصلُ أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على البُعْدِ ، ومنه أتَنَأى أي : أفْعَلُ النَّأيَ . والمَنْأى : الموضع البعيدُ .

قال النابغة : [ الطويل ]

فَإنَّكَ كالمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي *** وَإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عَنْكَ وَاسِعُ{[13537]}

و " تَنَاءَى " أي : تباعد ، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرَةِ التي حول الخِبَاءِ لتبعد عنه الماء .

وقُرِئ{[13538]} : { ونَاءَ بِجَانِبِهِ } [ فصلت :51 ] وهو مَقْلُوبٌ من " نأى " ، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ الأصل هو المَصْدَرُ وهو " النَّأيُ " بتقديم الهمزة على حرف العِلَّة .

فصل في المراد بالآية وسبب نزولها

معنى الآية الكريمة أنهم يَنْهَوْنَ النَّاسَ عن اتِّبَاع مُحَمَّدِ صلى الله عليه وسلم ويَنْأوْنَ عنه ، أي : يتباعدون عنه بأنفسهم نزلت هذه الآية في كُفَّار " مكة " المشرفة ، قال محمد بن الحَنَفِيَّةِ والس‍ُّدي والضَّحاك{[13539]} ، وقال قتادةُ : يَنْهَوْنَ عن القرآن ، وعن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه{[13540]} .

واعلم أنَّ النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم مُحَالٌ فلا بد أن يكون النهي عن فعل يتعلَّقُ به ، فذكروا فيه قولين :

الأول : ينهون عن تَدَبُّرِ القُرْآنِ واستماعه ، وعن التَّصديقِ بنبوة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والإقرار برسالته .

الثاني : قال ابن عبَّاسِ - رضي الله عنه - ومقاتل : نزلت في أبي طالب كان ينهى النَّاس عن أذَى النبي صلى الله عليه وسلم ويمعنهم ويَنْأى عن الإيمان به أي : يَبْعَدُ ، حتى روي أنه اجتمع إليه رؤوس المشركين ، وقالوا : تَخَيَّرْ{[13541]} من أصْبَحِنَا وَجْهاً وادْفَعْ إلينا محمداً ، فقال أبو طالب : ما أنْصَفْتُمُونِي أدْفَعُ إليكم ولدي لِتَقْتُلُوهُ وأرَبِّي وَلَدَكُمْ{[13542]} .

وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ إلى الإيمان فقال : لولا أن تُعِيِّرُني قُرَيْشٌ لأقررت بها عَينكَ ، ولكن أذُبُّ عنك ما حييتُ{[13543]} ، وقال فيه أبياتاً : [ الكامل ]

واللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بجَمْعِهِمْ *** حَتَّى أوَسَّدَ فِي التُّرابِ دَفِينَا

فَاصْدَعْ بأمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ *** وابْشِرْ وَقَرَّ بِذاكَ مِنْكَ عُيُونَا

وَدَعَوْتَنِي وَعَرفْتُ أنَّكَ نَاصِحِي *** وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا

وَعرَضْتَ دِينا قَدْ عَلِمْتُ{[13544]} بأنَّهُ *** مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا

لَوْلاَ الملامَةُ أو حذارُ مَسَبَّةٍ *** لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا{[13545]} {[13546]}

واعلم أنَّ القول الأوَّلَ أشبه لوجهين :

أحدهما : أنَّ جميع الآيات المتقدمة في ذَمِّ طريقتهم ، فلذلك كان ينبغي أن يكون قولهم : " وهم ينهون عنه " مَحْمُولاً على أمْرٍ مذموم ، وإذا حملناه على أنَّ أبا طالبٍ كان ينهى عن إيذائه لما حصل هذا النَّظْمُ{[13547]} .

وثانيهما : قوله تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم } يعني به ما تقدم ذكره ، ولا يَليقُ ذلك النهي عن أذِيَّتِهِ ، لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك{[13548]} .

فإن قيل : إنَّ قوله : { وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم } يرجع إلى قوله : " يَنْأوْنَ عَنْهُ " لا إلى قوله : " ينهون عنه " ؛ لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه بمُفَارَقَةِ دينه وترك موافقته وذلك ذَمٌّ .

فالجوابُ أن ظاهر قوله : { وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } يرجعُ إلى كل ما تقدَّمَ ذِكْرُهُ ، كما يقال : " فلان يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه ، ولا يَضُرُّ بذلك إلاَّ نفسه " ، فلا يكون{[13549]} هذا الضرر متعلّقاً بأحد الأمرين دون الآخر .

قوله : " وإن يهلكون " " إنْ " نافية كالتي في قوله : { إِنْ هَذَا }

[ الأنعام :25 ] و " أنفسهم " مفعولٌ ، وهو استثناءُ مُفَرَّغٌ ، ومفعول " يَشْعرون " محذوف : إمَّا اقتصاراً ، وإمَّا اختصاراً ، أي : وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم بتماديهم في الكُفْرِ وغُلُوِّهِمْ فيه ، قاله ابن عباس{[13550]} .


[13530]:أخرجه مسلم في صحيحه 3/1493، الحديث (97/1872) وله شاهد من حديث أنس بلفظ: البركة في نواصي الخيل. أخرجه البخاري في الصحيح 6/54، كتاب الجهاد باب الخيل معقود في نواصيها الخير الحديث (100/1874) واللفظ لهما.
[13531]:تقدم.
[13532]:ينظر: الدر المصون 3/35، البحر المحيط 4/104.
[13533]:البيت لذي الرمة في ديوانه ص (1192)، خزانة الأدب 9/309 ـ 312، شرح الأشموني 1/134، شرح المفصل 7/124، لسان العرب (رسس)، الدر المصون 3/35.
[13534]:تقدم.
[13535]:البيت للنمر بن تولب. ينظر: الكامل 1/373، روح المعاني 7/127، لسان العرب (نأى) الدر المصون 3/35.
[13536]:ينظر: اللسان (نأى) التهذيب (نأى)، الدر المصون 3/35.
[13537]:ينظر: ديوانه ص (81)، العمدة لابن رشيق 2/178، معاهد التنصيص 1/330، الكامل 3/33، المصون 67 اللسان (نأى)، الدر المصون 3/36.
[13538]:وهي قراءة ابن عامر من رواية ابن ذكوان ينظر: السبعة (577)، الدر المصون 3/36.
[13539]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/171) عن محمد بن الحنفية وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/15) وزاد نسبته لابن شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[13540]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/171) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/16) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[13541]:في ب: خذ شابا.
[13542]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/172) والحاكم (2/315) والطبراني كما في "مجمع الزوائد". وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/15) وزاد نسبته للفريابي وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس.
[13543]:ينظر: تفسير القرطبي 6/261.
[13544]:في القرطبي: عرفت.
[13545]:في القرطبي: يقينا.
[13546]:تقدم.
[13547]:ينظر: تفسير الرازي 12/156.
[13548]:ينظر: المصدر السابق.
[13549]:في ب: فيكون.
[13550]:ينظر: الرازي 12/157.