وقوله تعالى : { أقم الصلاة } الآية ، لم يختلف أحد في أن { الصلاة } في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة ، واختلف في { طرفي النهار } وزلف الليل فقيل : الطرف الأول الصبح ، والثاني الظهر والعصر ، والزلف : المغرب والعشاء ، قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المغرب والعشاء :«هما زلفتا الليل »{[6528]} وقيل : الطرف الأول : الصبح ، والثاني : العصر ، قاله الحسن وقتادة والضحاك ، والزلف : المغرب والعشاء ، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول - بل هي في غيرها ، وقيل الطرفان : الصبح والمغرب - قاله ابن عباس والحسن - أيضاً - والزلف : العشاء ، وليست في الآية الظهر والعصر . وقيل : الطرفان : الظهر والعصر ، والزلف : المغرب والعشاء والصبح .
قال القاضي أبو محمد : كأن هذا القائل راعى جهر القراءة ، والأول أحسن هذه الأقوال عندي ورجح الطبري أن الطرفين : الصبح والمغرب ، وأنه الظاهر ، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى .
وقرأ الجمهور «زلَفاً » بفتح اللام ، وقرأ طلحة بن مصرف وابن محيصن وعيسى وابن إسحاق وأبو جعفر «زلُفاً » بضم اللام كأنه اسم مفرد . وقرأ «زلْفاً » بسكون اللام مجاهد ، وقرأ أيضاً : «زلفى » على وزن - فعلى - وهي قراءة ابن محيصن . والزلف : الساعات القريب بعضها من بعض . ومنه قول العجاج : [ الرجز ]
سماوة الهلال حتى احقوقفا{[6529]}***
وقوله { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن { الحسنات } يراد بها الصلوات الخمس - وإلى هذه الآية ذهب عثمان - رضي الله عنه - عند وضوئه على المقاعد{[6530]} وهو تأويل مالك ، وقال مجاهد : { الحسنات } : قول الرجل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات ، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال ، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام : «ما اجتنبت الكبائر » .
وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار ، قيل : هو أبو اليسر بن عمرو ، وقيل : اسمه عباد ، خلا بامرأة فقبلها وتلذّذ بها فيما دون الجماع ، ثم جاء إلى عمر فشكا إليه ، فقال : قد ستر الله عليك فاستر على نفسك ، فقلق الرجل فجاء أبا بكر فشكا إليه ، فقال له مثل مقالة عمر ، فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى معه ، ثم أخبره وقال : اقض فيَّ ما شئت ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلها زوجة غاز في سبيل الله ، قال : نعم ، فوبخه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أدري ، فنزلت هذه الآية ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاها عليه : فقال معاذ بن جبل : يا رسول الله خاصة ؟ قال : بل للناس عامة{[6531]} . وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ .
قال القاضي أبو محمد : وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الجمعة إلى الجمعة ، والصلوات الخمس ، ورمضان إلى رمضان - كفارة لما بينها إن اجتنبت الكبائر »{[6532]} فاختلف أهل السنة في تأويل هذا الشرط في قوله : «إن اجتنبت الكبائر » ، فقال جمهورهم : هو شرط في معنى الوعد كله ، أي إن اجتنبت الكبائر كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب ، فإن لم تجتنب لم تكفر العبادات شيئاً من الصغائر . وقالت فرقة : معنى قوله إن اجتنبت : أي هي التي لا تحطها العبادات ، فإنما شرط ذلك ليصح بشرطه عموم قوله : ما بينهما ، وإن لم تحطها العبادات وحطت الصغائر .
قال القاضي أبو محمد : وبهذا أقول وهو الذي يقتضيه حديث خروج الخطايا مع قطر الماء وغيره{[6533]} ؛ وذلك كله بشرط التوبة من تلك الصغائر وعدم الإصرار عليها ، وهذا نص الحذاق الأصوليين . وعلى التأويل الأول تجيء هذه مخصوصة في مجتنبي الكبائر فقط .
وقوله ذلك إشارة إلى الصلوات ، ووصفها ب { ذكرى } ، أي هي سبب ذكر وموضع ذكرى ، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الإخبار ب { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، فتكون هذه الذكرى تحض على الحسنات ، ويحتمل أن تكن الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه السورة ، وهو تفسير الطبري .
انتقل من خطاب المؤمنين إلى خطاب النّبيء صلى الله عليه وسلم وهذا الخطاب يتناول جميع الأمّة بقرينة أنّ المأمور به من الواجبات على جميع المسلمين ، لا سيما وقد ذكر معه ما يناسب الأوقات المعيّنة للصلوات الخمس ، وذلك ما اقتضاه حديث أبي اليُسْر الآتي .
وطرف الشيء : منتهاه من أوّله أو من آخره ، فالتثنية صريحة في أنّ المراد أوّل النّهار وآخره .
و { النّهار } : ما بين الفجر إلى غروب الشمس ، سمي نهاراً لأنّ الضياء ينهر فيه ، أي يبرز كما يبرز النهْر .
والأمر بالإقامة يؤذن بأنّه عمل واجب لأنّ الإقامة إيقاع العمل على ما يستحقه ، فتقتضي أنّ المراد بالصّلاة هنا الصلاة المفروضة ، فالطّرفان ظَرْفان لإقامة الصّلاة المفروضة ، فعلم أن المأمور إيقاع صلاة في أوّل النّهار وهي الصّبح وصلاة في آخره وهي العصر وقيل المغرب .
والزُلَف : جمع زُلْفة مثل غُرْفة وغُرَف ، وهي السّاعة القريبة من أختها ، فعلم أن المأمور إيقاع الصلاة في زلف من اللّيل ، ولمّا لم تعيّن الصلوات المأمور بإقامتها في هذه المدّة من الزمان كان ذلك مجملاً فبينته السنةُ والعملُ المتواتر بخمس صلوات هي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وكان ذلك بيَاناً لآيات كثيرة في القرآن كانت مجملة في تعيين أوقات الصلوات مثل قوله تعالى : { أقم الصّلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهودا } [ الإسراء : 78 ]
والمقصود أن تكون الصّلاة أول أعمال المُسلم إذا أصبح وهي صلاة الصبح وآخر أعماله إذا أمسى وهي صلاة العشاء لتكون السيّئات الحاصلة فيما بيْن ذلك ممحوة بالحسنات الحافّة بها . وهذا مشير إلى حكمة كراهة الحديث بعد صلاة العشاء للحثّ على الصّلاة وخاصة ما كان منها في أوقات تعرض الغفلة عنها . وقد ثبت وجوبهما بأدلّة أخر وليس في هذه الآية ما يقتضي حصر الوجوب في المذكور فيها .
وجملة { إنّ الحسنات يذهبن السّيئات } مسوقة مساق التّعليل للأمر بإقامة الصّلوات ، وتأكيد الجملة بحرف { إنّ } للاهتمام وتحقيق الخبر . و { إنّ } فيه مفيدة معنى التّعليل والتفريع ، وهذا التعليل مؤذن بأنّ الله جعل الحسنات يذهبن السيّئات ، والتّعليل مشعر بعموم أصحاب الحسنات لأنّ الشأن أن تكون العلّة أعم من المعلول مع ما يقتضيه تعريف الجمع باللاّم من العموم .
وإذهاب السيّئات يشمل إذهاب وقوعها بأن يصير انسياق النّفس إلى ترك السيّئات سَهْلاً وهيّناً كقوله تعالى : { إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها . ويشمل أيضاً محو إثمها إذا وقعت ، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها فضلاً من الله على عباده الصالحين .
ومحمل السيّئات هنا على السيّئات الصغائر التي هي من اللّمم حملاً لمطلق هذه الآية على مقيد آية { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللّمَم } [ النجم : 32 ] وقوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تُنْهَوْنَ عنه نكَفّر عنكم سيئاتكم } [ النساء : 31 ] ، فيحصل من مجموع الآيات أنّ اجتناب الفواحش جعله الله سبباً لغفران الصغائر أوْ أنّ الإتيان بالحسنات يذهب أثر السيئات الصغائر ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { إنْ تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم } في سورة [ النّساء : 31 ] .
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أنّ رجلاً أصاب من امرأة قبلةَ حرام فأتى النبي فذكرت ذلك فأنزلت عليه { وأقم الصّلاة طرفي النهار وزُلَفاً من الليل } . فقال الرجل : ألِي هذه ؟ قال : لمن عمل بِها من أمّتي .
وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنّي عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها وها أنا ذا فَاقْض فيّ ما شئت ، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فانطلق الرجل فأتبعه رجلاً فدعاه فتلا عليه { وأقم الصلاة طرفي النهار } إلى آخر الآية ، فقال رجل من القوم : هذا له خاصة ؟ قال : لا ، بل للنّاس كافة . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وأخرج الترمذي حديثين آخرين : أحدهما عن معاذ بن جبل ، والآخر عن أبي اليَسر وهو صاحب القصة وضعّفهما .
والظاهر أن المرويّ في هذه الآية هو الذي حمل ابن عبّاس وقتادة على القول بأنّ هذه الآية مدنيّة دون بقية هذه السورة لأنه وقع عند البخاري والترمذي قوله : ( فأنزلت عليه ) فإن كان كذلك كما ذكره الرّاوي فهذه الآية ألحقت بهذه السورة في هذا المكان لمناسبة وقوع قوله : { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] قبلها وقولِه : { واصبر فإنّ الله لا يضيعُ أجرَ المحسنين } [ هود : 115 ] بعدَها .
وأمّا الذين رجّحوا أنّ السورة كلّها مكيّة فقالوا : إنّ الآية نزلت في الأمر بإقامة الصّلوات وإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بها الذي سأله عن القبلة الحرام وقد جاء تائباً ليعلمه بقوله : { إن الحسنات يذهبن السيّئات } ، فيؤوّل قولُ الراوي : فأنزلت عليه ، أنّه أنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضيّة السائل ولجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب غير الفواحش .
ويؤيّد ذلك ما في رواية الترمذي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قوله : فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم { وأقم الصّلاة } ، ولم يقولا : فَأنْزل عليه .
وقوله : { ذلك ذكْرى للذّاكرين } أيْ تذْكرة للّذي شأنه أن يذكر ولم يكن شأنه الإعراض عن طلب الرشد والخير ، وهذا أفاد العموم نصّاً . وقوله : { ذلك } الإشارة إلى المذكور قبله من قوله : { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] .