المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

{ لولا } هي التي للتحضيض - لكن يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد ، وهذا نحو قوله : { يا حسرة على العباد }{[6535]} ، و { القرون من قبلكم } هم قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره ، والقرن من الناس : المقترنون في زمان طويل أكثره - فيما حد الناس - مائة سنة ، وقيل ثمانون وقيل غير ذلك إلى ثلاثين سنة ؛ والأول أرجح لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن إلى رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد »{[6536]} قال ابن عمر : يريد أنها تخرم ذلك القرن و { بقية } هنا يراد بها النظر والعقل والحزم والثبوت في الدين ، وإنما قيل : { بقية } لأن الشرائع والدول ونحوها - قوتها في أولها ثم لا تزال تضعف فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول .

وقرأت فرقة : «بقية » بتخفيف الياء وهو رد فعيلة إلى فعلة{[6537]} ، وقرأ أبو جعفر وشيبة «بُقْية » بضم الباء وسكون القاف على وزن فُعلة .

و { الفساد في الأرض } هو الكفر وما اقترن به من المعاصي ، وهذه الآية فيها تنبيه لأمة محمد وحض على تغيير المنكر والنهي عن الفساد ثم استثنى الله تعالى القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم . و { قليلاً } نصب على الاستثناء وهو منقطع عند سيبويه ، والكلام عنده موجب ، وغيره يراه منفياً من حيث معناه أنه لم يكن فيهم أولو بقية .

وقرأ جمهور الناس «واتبعَ » على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ حفص بن محمد : «واتبع » على بنائه للمفعول ، ورويت عن أبي عمرو{[6538]} .

و { ما أترفوا فيه } أي عاقبة ما نعموا به - على بناء الفعل للمفعول - والمترف : المنعم الذي شغلته ترفته عن الحق حتى هلك ومنه قول الشاعر :

تحيي رؤوس المترفين الصداد*** إلى أمير المؤمنين الممتاد{[6539]}

يريد المسؤول ، يقال ماده ، إذا سأله .


[6535]:- من الآية (30) من سورة (يسن).
[6536]:- الحديث رواه البخاري في باب السمر في العلم عن عبد الله بن عمر، قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتكم.. الخ.
[6537]:- قال في "البحر المحيط": "فهي اسم فاعل من بقي، نحو شجيت فهي شجية".
[6538]:- ورويت أيضا عن العلاء بن سيابة، وهي بسكون التاء مبنية للمفعول على حذف مضاف لأنه مما يتعدى إلى مفعولين، والتقدير: جزاء ما أترفوا فيه، قال ذلك أبو حيان في "البحر"، ولعله نقله عن أبي الفتح حيث قال في المحتسب: "هو عندنا على حذف مضاف، أي: اتبع الذين ظلموا جزاء ما أترفوا فيه".
[6539]:- البيتان من مشطور الرجز، وهما لرؤبة بن العجاج، قاله في اللسان، وأيضا في التاج، وهما في الديوان، وذكرهما أبو عبيدة في "مجاز القرآن"، وقال أبو عبيدة بعدهما: الممتاد: من ماد يميد، وفي اللسان: الممتاد: المطلوب منه العطاء، مفتعل (اسم مفعول)، ثم قال: من ماد يميد، وفي اللسان: الممتاد: المطلوب منه العطاء، مفتعل (اسم مفعول)، ثم قال أي المتفضل على الناس، وهو المستعطى المسؤول، وماد زيد عمروا إذا أعطاه، والرواية في اللسان: تُهدي رؤوس المترفين الأنداد، وكلمة "تهدي" كتبت في الأصول (تجبي)
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (116)

هذا قوي الاتّصال بقوله تعالى : { وكذلك أخذ ربك } [ هود : 102 ] فيجوز أن يكون تفريعاً عليه ويكون ما بينهما اعتراضاً دعا إليه الانتقال الاستطرادي في معان متماسكة . والمعنى فهلاّ كان في تلك الأمم أصحاب بقية من خير فنهوا قومهم عن الفساد لما حلّ بهم ما حلّ . وذلك إرشاد إلى وجوب النهي عن المنكر . ويجوز أن يكون تفريعاً على قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] والآية تفريع على الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان وعن الركون إلى الذين ظلموا ، إذ المعنى : ولا تكونوا كالأمم من قبلكم إذ عدموا من ينهاهم عن الفساد في الأرض وينهاهم عن تكذيب الرّسل فأسرفوا في غلوائهم حتى حلّ عليهم غضب الله إلاّ قليلاً منهم ، فإن تركتم ما أمرتم به كان حالكم كحالهم ، ولأجل هذا المعنى أتي بفاء التفريع لأنّه في موقع التفصيل والتعليل لجملة { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] وما عطف عليها ؛ كأنّه قيل : وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم فَلَوْلاَ كان منهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلى آخره ، أي فاحذروا أن تكونوا كما كانوا فيصيبكم ما أصابهم ، وكونوا مستقيمين ولا تَطغوا ولا تركنوا إلى الظّالمين وأقيموا الصلاة ، فغُيّرَ نظمُ الكلام إلى هذا الأسلوب الذي في الآية لتفنن فوائده ودقائقه واستقلال أغراضه مع كونها آيلة إلى غرض يعمّمها . وهذا من أبدع أساليب الإعجاز الذي هو كردّ العجز على الصدر من غير تكلّف ولا ظهور قصد .

ويقرب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وَمَا أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم "

و ( لولا ) حرف تحضيض بمعنى ( هلاّ ) . وتحضيض الفائت لا يقصد منه إلاّ تحذير غيره من أن يقع فيما وقعوا فيه والعبرة بما أصابهم .

والقرون : الأمم . وتَقَدّم في أوّل الأنعام .

والبقية : الفضل والخير . وأطلق على الفضل البقية كناية غلبت فسارت مسرى الأمثال لأنّ شأن الشيء النفيس أنّ صاحبه لا يفرط فيه .

وبقيّة الناس : سادتهم وأهل الفضل منهم ، قال رويشد بن كثير الطائي :

إنْ تذنبوا ثم تأتيني بقيّتكم *** فَمَا عليّ بذنب منكم فوت

ومن أمثالهم « في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا » . فمن هنالك أطلقت على الفضل والخير في صفات الناس فيقال : في فلان بقية ، والمعنى هنا : أولُو فضل ودين وعلم بالشريعة ، فليس المراد الرّسل ولكن أريد أتباع الرسل وحملة الشرائع ينهون قومهم عن الفساد في الأرض .

والفساد : المعاصي واختلاف الأحوال ، فنهيهم يردعهم عن الاستهتار في المعاصي فتصلح أحوالهم فلا يحق عليهم الوهن والانحلال كما حلّ ببني إسرائيل حين عدموا من ينهاهم . وفي هذا تنويه بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنّهم أولُو بقيّة من قريش يدعونهم إلى الإيمان حتى آمن كلّهم ، وأولُو بقية بين غيرهم من الأمم الذين اختلطوا بهم يدعونهم إلى الإيمان والاستقامة بعد الدخول فيه ويعلّمون الدين ، كما قال تعالى فيهم : { كنتم خيرَ أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] .

وفي قوله : { من القرون من قبلكم } إشارة إلى البشارة بأنّ المسلمين لا يكونون كذلك ممّا يومىء إليه قوله تعالى : { مِن قبلكم } .

وقرأ ابن جمّاز عن أبي جعفر « بِقْية » بكسر الباء الموحّدة وسكون القاف وتخفيف التّحتية فهي لغة ولم يذكرها أصحاب كتب اللغة ولعلّها أجريت مجرى الهيئة لما فيها من تخيّل السمت والوقار .

و { إلاّ قليلاً } استثناء منقطع من { أولُوا بقيّة } وهو يستتبع الاستثناء من القرون إذ القرون الذين فيهم { أولوا بقيّة } ليسوا داخلين في حكم القرون المذكورة من قبل ، وهو في معنى الاستدراك لأنّ معنى التحْضيض متوجّه إلى القرون الذين لم يكن فيهم أولو بقية فهم الذين يُنعى عليهم فقدان ذلك الصنف منهم . وهؤلاء القرون ليس منهم من يستثنى إذ كلهم غير ناجين من عواقب الفساد ، ولكن لمّا كان معنى التحضيض قد يوهم أنّ جميع القرون التي كانت قبل المسلمين قد عدموا أولي بقية مع أن بعض القرون فيهم أولو بقيّة كان الموقع للاستدراك لرفع هذا الإيهام ، فصار المستثنى غيرَ داخل في المذكور من قبل ، فلذلك كان منقطعاً ، وعلامة انقطاعه انتصابه لأنّ نصب المستثنى بعد النفي إذا كان المستثنى منه غير منصوب أمارة على اعتبار الانقطاع إذ هو الأفصح . وهل يجيء أفصح كلام إلاّ على أفصح إعْراب ، ولو كان معتبراً اتّصاله لجاء مرفوعاً على البدلية من المذكور قبله .

و ( مِن ) في قوله : { ممن أنجينا } بيانيّة ، بيان للقليل لأنّ الذين أنجاهم الله من القرون هم القليل الذين ينهون عن الفساد ، وهم أتباع الرسل .

وفي البيان إشارة إلى أنّ نهيهم عن الفساد هو سبب إنجاء تلك القرون لأنّ النهي سبب السبب إذ النهي يسبّب الإقلاع عن المعاصي الذي هو سبب النجاة .

ودلّ قوله : { ممّن أنجينا منهم } على أن في الكلام إيجازَ حذففٍ تقديره : فكانوا يتوبون ويقلعون عن الفساد في الأرض فينجون من مسّ النار الذي لا دافع له عنهم .

وجملة { واتّبع الذين ظلموا } معطوفة على ما أفاده الاستثناء من وجود قليل ينهون عن الفساد ، فهو تصريح بمفهوم الاستثناء وتبيين لإجماله . والمعنى : وأكثرهم لم ينهوا عن الفساد ولم ينتهوا هم ولا قومهم واتّبعوا ما أترفوا فيه كقوله تعالى : { فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } [ البقرة : 34 ] تفصيلاً لمفهوم الاستثناء .

وفي الآية عبرة وموعظة للعصاة من المسلمين لأنّهم لا يخلون من ظلم أنفسهم .

واتباعُ ما أترفوا فيه هو الانقطاع له والإقبال عليه إقبال المتّبِع على متبوعه .

وأترفوا : أعطوا التّرف ، وهو السعة والنعيم الذي سهّله الله لهم فالله هو الذي أترفهم فلم يشكروه .

و { كانوا مجرمين } أي في اتّباع الترف فلم يكونوا شاكرين ، وذلك يحقّق معنى الاتّباع لأنّ الأخذ بالترف مع الشكر لا يطلق عليه أنه اتّباع بل هو تمحّض وانقطاع دون شوبه بغيره . وفي الكلام إيجاز حذف آخر ، والتقدير : فحقّ عليهم هلاك المجرمين ، وبذلك تهيّأ المقام لقوله بعده : { وما كان ربك ليهلك الْقُرى بظلم } [ هود : 117 ] .