السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّـٰكِرِينَ} (114)

ولما أمر تعالى بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة بقوله تعالى : { وأقم الصلاة } وذلك يدلّ على أنّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى هو الصلاة وقوله تعالى : { طرفي النهار } الغداة والعشي ، أي : الصبح والظهر والعصر . وقوله تعالى : { وزلفاً } جمع زلفةً ، أي : طائفة { من الليل } ، أي : المغرب والعشاء { إنّ الحسنات } كالصلوات الخمس { يذهبن } ، أي : يكفرن { السيئات } ، أي : الذنوب الصغائر ، لما رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر » ، وزاد في رواية أخرى : «ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر » ، وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أرأيتم لو أنّ نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات ما تقولون هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، لا يبقى من درنه شيء . فقال : ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا » . وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات » . وعن الحسن أنّ الحسنات قول العبد : سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وسبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر بن عمر وقال : أتتني امرأة وزوجها بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعث فقالت : بعني بدرهم تمراً . قال : فأعجبتني فقلت : إنّ في البيت تمراً هو أطيب من هذا فالحقيني ، فَدَخَلَتْ معي البيت فأهويت إليها فقبلتها ، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال : استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً ، فأتيت عمراً فذكرت له ذلك فقال : استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : «أخنت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا » حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً حتى أوحي إليه : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل } إلى قوله تعالى : { ذلك ذكرى للذاكرين } ، أي : عظة للمتقين . قال أبو اليسر : فأتيته فقرأها عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهذا خاصة أم للناس عامّة ؟ قال : «بل للناس عامّة » . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .

وعن عبد الله بن مسعود أنّ رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فنزلت فقال رجل : يا رسول الله ، ألهذا خاصة ؟ فقال : «بل للناس كافة » . وعن معاذ بن جبل قال : أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلاً لقي امرأة ليس بينهما معرفة وليس يأتي الرجل إلى امرأة شيئاً إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها ؟ قال : فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي ، فقال معاذ بن جبل فقلت : يا رسول الله ، أهي له خاصة أم للمؤمنين عامّة ؟ قال : «بل للمؤمنين عامّة » .

قال العلماء : الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحة مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر ، وأمّا الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط : الأوّل : الإقلاع عن الذنب بالكلية ، الثاني : الندم على فعله ، الثالث : العزم التام على أن لا يعود إليه في المستقبل ، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى والإشارة في قوله تعالى { ذلك ذكرى } إلى ما تقدّم ذكره من قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت } إلى هاهنا . وقيل : هو إشارة إلى القرآن .