اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّـٰكِرِينَ} (114)

قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } الآية .

لمَّا أمره بالاستقامة أردفهُ بالأمر بالصَّلاة ، وذلك يدلُّ على أنَّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة .

قوله : { طَرَفَيِ النهار } ظرفٌ ل " أقِم " ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة ، كأنه قيل : أي أقم الصَّلاة الواقعة في هذين الوقتين ، والطرف ، وإن لم يكن ظرفاً ، ولكنَّه لمَّا أضيف إلى كلها على الظرف لمَّّا أضيفت إليه ، وإن كانت ليست موضوعة للظَّرفية .

وقرأ العامَّةُ " زُلَفاً " بضمِّ الزاي ، وفتح اللام ، وهي جمعُ " زُلْة " بسكون اللام ، نحو : غُرَف في جمع غُرفة ، وظُلَم في جمع ظُلمه . وقرأ أبو جعفر{[19060]} وابنُ أبي إسحاق بضمها ، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه :

أحدهما : أنَّهُ جمع " زُلْفَة " أيضاً ، والضَّمُّ للإتباع ، كما قالوا : بسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمَّة الباء .

الثاني : أنَّهُ اسمٌ مفرد على هذه الزِّنةِ ك : عُنُق .

الثالث : أنه جمعُ " زَلِيف " قال أبو البقاءِ : " وقد نُطِف به " ، يعني أنَّهم قالوا زَليف ، و " فعيل " يجمعُ على " فُعُل " نحو : رَغِيف ورغف ، وقَضِيب وقضُب .

وقرأ مجاهدٌ وابنُ محيصنٍ بإسكان اللاَّم{[19061]} وفيها وجهان :

أحدهما : أنَّهُ يحتمل أن تكون هذه القراءةُ مخفَّفةً من ضمِّ العين فيكون فهيا ما تقدَّم .

والثاني : أنَّهُ سكونُ أصلٍ من باب اسم الجنس نحو : بُسْرة وبُسْر من غير إتباع .

وقرأ مجاهد وابن{[19062]} محيصنٍ وأيضاً في رواية : " وزُلْفَى " بزنة : " حُبْلَى " جعلوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى ؛ لأنَّ المعنى على المنزلة الزُّلفى ، أو الساعة الزُّلْفَى ، أي : القريبة .

وقد قيل : إنَّه يجوز أن يكون أبدلا التنوين ألفاً ثم أجريا الوصل مجرى الوقف فإنَّهُما يقرآن بسكون اللاَّم وهو محتملٌ .

وقال الزمخشري : والزلفى بمعنى الزلفة ، كما أن القربى بمعنى القربة يعني : أنه مما تعاقب فيه تاء التأنيث وألفه .

وفي انتصاب : " زُلَفاً " وجهان :

أظهرهما : أنه نسقٌ على " طَرفي " فينتصب الظَّرف ، إذ المراد بها ساعات الليل القريبة .

والثاني : أن ينتصب انتصابَ المفعول به نسقاً على الصَّلاة .

قال الزمخشريُّ{[19063]}- بعد أن ذكر القراءات المتقدمة- : وهو ما يقرب من آخر النَّهار ومن الليل ، وقيل : زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل ، وحقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة ، أي : أقم الصلاة طرفي النَّهار ، وأقم زُلفاً من اللَّيل على معنى صلوات تقرَّبُ بها إلى الله تعالى في بعض الليل .

والزُّلفةُ : أول ساعات الليل ، قاله ثعلبُ . وقال الأخفش وابنُ قتيبة : " الزلف : ساعات الليل وآناؤه ، وكلُّ ساعة منه زلفة " فلم يخصصاه بأوَّلِ الليلِ ؛ وقال العداد : [ الرجز ]

ناجٍ طواهُ الأيْنُ ممَّا وجَفَا *** طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفاً فزُلفَا

سماوةَ الهلالِ حَتَّى احقوْقَفا{[19064]} *** . . .

وأصلُ الكلمة من " الزُلْفَى " والقرب ، يقال : أزْلفه فازْدلفَ ، أي : قربَّهُ فاقتربَ قال تعالى : { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين } [ الشعراء : 64 ] وفي الحديث : " ازْدَلِفُوا إلى الله بركعتيْنِ " {[19065]} .

وقال الرَّاغب{[19066]} : والزُّلفةُ : المَنْزِلَةُ والحُظْوة ، وقد استعملت الزُّلفة في معنى العذابِ كاستعمال البشارة ونحوها ، والمزالِفُ : المراقي : وسُمِّيت ليلة المزدلفة لقربهم من منى بعد الإفاضة . وقوله : " من اللَّيل " صفةٌ ل " زُلَفاً " .

فصل

معنى " طَرَفَي النَّهارِ " أي : الغداوة والعشي . قال مجاهدٌ- رحمه الله- : طرفا النهار الصبح ، والظهر ، والعصر " وزُلفاً من اللَّيْل " يعني : صلاة المغرب والعشاء .

وقال الحسنُ : طرفا النَّهارِ : الصبح ، والظهر والعصر " وزُلفاً من اللَّيل " المغرب والعشاء وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- : طرفا النهار الغداوة والعشي ، يعني صلاة الصبح والمغرب{[19067]} .

فصل

قال ابن الخطيب{[19068]} - رحمه الله- : " الأشهر أنَّ الصلوات التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر ، وذلك لأنَّ أحد طرفي النهار طُلوعُ الشَّمس ، والطَّرف الثاني غروب الشمس .

فالأول : هو صلاة الفجر .

والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب ؛ لأنها داخلة تحت قوله : { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } فوجب حملُ الطَّرفي الثاني على صلاة العصر .

وإذا تقرَّر هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- في أنَّ التنوير بالفجرِ أفضل ، وفي أنَّ تأخير العصر أفضل ؛ لأنَّ ظاهر الآية يدلُّ على وجوب إقامة الصَّلاة في طرفي النهار ، وبينا أنَّ طرفي النهار هما الزمان الأول لطلوع الشمس ، والزَّمان الثَّاني لغروب الشمس ، وأجمعت الأمة على أنَّ إقامة الصَّلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذَّر العملُ بظاهر الآية ، فوجب حمله على المجاز ، وهو أن يكون المرادُ : إقامة الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار ؛ لأنَّ ما يقرب من الشَّيءِ يجوزُ أن يطلقَ عليه اسمه ، وإذا كان كذلك فكل وقتٍ كان أقرب لطلوع الشمسِ ، وإلى غروبها كان أقربُ إلى ظاهر اللفظ ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطُّلوع من إقامتها عند التغليس ، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه ، أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظلُّ كل شيءٍ مثله ، والمجازُ كلَّما كان أقرب إلى الحقيقة ، كان حملُ اللفظ عليه أولى .

فصل

قال أبو بكر الباقلاني - رضي الله عنه- : إنَّ الخوارجَ تمسَّكُوا بهذه الآية في إثبات أنَّ الواجب ليس إلاَّ الفجر والعشاء من وجهين :

الأول : أنَّهُمَا واقعان على طرفي النهار ؛ فوجب أن يكون هذا القدر كافياً .

فإن قيل : قوله { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } يوجب صلوات أخرى .

قلت : لا نُسلِّمُ ، فإنَّ طرفي النهار موصوفان بكونهما زُلفاً من اللَّيْلِ ، فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أنَّ هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف ، وذلك كثير في القرآن والشعر .

الوجه الثاني : أنه تعالى قال : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } وهذا يقتضي أنَّ من صلًَّى طرفي النَّهار كان إقامتهما كفارة لكلّ ذنب ، فبتقدير أن يقال : إنَّ سائرَ الصلوات واجبة إلاَّ أنَّ إقامتها يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات ، وهذا القولُ باطلٌ بإجماع الأمَّةِ فلا يلتفتُ إليه .

فصل

قيل قي قوله تعالى : { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } أنه يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلفٍ من الليل ؛ لأنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة ، والمغربُ والعشاءُ وقتان ؛ فيجب الحكمُ بوجوب الوتر .

قوله : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } قال ابن عبَّاسِ : إنَّ الصَّلوات الخمس كفارة لسائر الذُّنوب بشرط اجتناب الكبائر{[19069]} . وروي عن مجاهدٍ - رحمه الله - : " إنَّ الحسنات هي قول العبد : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر{[19070]} .

وروي أنَّها نزلت في أبي اليسر ، قال : أتتني امرأة تبتاع تَمْراً ، فقلتُ لها إنَّ في بتي تَمراً أطيب من هذا ؛ فدخلت معي في البيت ، فأهويت إليها فقبَّلتُهَا ، فأَيْتُ أبا بكر- رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين- فذكرتُ ذلك له فقال : اسْتُرْ على نفسك وتب ، فأتيتُ عمر - رضي الله عنه- فقال : اسْتُرْ على نفسك وتُب فلم أصْبِرْ ، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك ، فقال : " أخلفت غازياً في سبيل الله في أهلهِ بمثلِ هذا ؟ " حتَّى تمنَّى أنَّهُ لمْ يكُنْ أسلم إلاَّ تلك السَّاعة حتَّى ظنَّ أنَّهُ من أهْلِ النَّارِ فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أوحي إليه { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } الآية ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألِهذا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : " بَلْ للنَّاسِ عامَّة " {[19071]} وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " الصَّواتُ الخمسُ ، والجمعةُ إلى الجمعةِ ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفّراتٌ ما بينهُنَّ إذا اجتُنِبت الكبائِرَ " {[19072]} .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : " أرأيتُم لوْ أنَّ نهراً بباب أحدكمْ يغتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ ، هل يبْقَى من دَرَنِهِ شيءٌ " ؟ قالوا : لا ، قال : " فذلِكَ مثلُ الصَّلواتِ الخمسِ ، يَمْحُوا اللَّهُ بهنَّ الخطايا " {[19073]} .

فصل

احتجَّ من قال إنَّ المعصية لا تضرُّ مع الإيمان بهذه الآية ؛ لأنَّ الإيمان أشرفُ الحسنات ، وأجلها ، وأعظمها ، ودلَّت الآية على أنَّ الحسنات تذهبُ السيئات ، والإيمان يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان ؛ فلأن يذهب المعصية التي هي أقل درجة أولى ، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقلَّ من أن يفيد إزالة العقابِ الدَّائم المؤبَّد .

ثم قال تعالى : { ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } أي : ذلك الذي ذكرناه ، وقيل : إشارة إلى القرآن " ذِكْرَى " موعظة ، " للذَّاكرينَ " أي : لمن ذكره


[19060]:قرأ به أيضا طلحة بن مصرف وابن محيصن وعيسى ينظر: المحرر الوجيز 3/212 والبحر المحيط ولم يقرأ بها ابن محيصن 5/270 وينظر القراءة في الدر المصون 4/145.
[19061]:ينظر: المحرر الوجيز 3/212 والبحر المحيط 5/270 والدر المصون 4/145.
[19062]:ينظر: المحرر الوجيز 3/212 والبحر المحيط 5/270 والدر المصون 4/145.
[19063]:ينظر: الكشاف 2/435.
[19064]:تقدم.
[19065]:ينظر: المفردات 4/2.
[19066]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/125).
[19067]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/125) عن الحسن وابن زيد وذكره البغوي في "تفسيره" (2/405) عن ابن عباس.
[19068]:ينظر: الفخر الرازي 17/58.
[19069]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/405).
[19070]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/131).
[19071]:أخرجه الترمذي (5/272-273) كتاب التفسير: سورة هود حديث (3115) والنسائي في الكبرى (6/366) رقم (11248) والطبري في "تفسيره" (7/134). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/638) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[19072]:أخرجه مسلم 1/209، كتاب الطهارة: باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة (16/233) والترمذي 1/418-419 كتاب الصلاة: باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس (214) وأحمد 2/484.
[19073]:أخرجه البخاري 2/11، كتاب مواقيت الصلاة باب الصلوات الخمس كفارة (528)، ومسلم 1/462-463 كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا ويرفع به الدرجات (283/667) والترمذي 1/418، كتاب الصلاة: باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس (214)، وأحمد، 2/484.