البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّـٰكِرِينَ} (114)

الزلفة قال الليث : طائفة من أول الليل ، والجمع الزلف ، وقال ثعلب : الزلف أول ساعات الليل ، واحدها زلفة .

وقال أبو عبيدة ، والأخفش ، وابن قتيبة ، الزلف ساعات الليل وآناؤه ، وكل ساعة زلفة .

وقال العجاج :

ناح طواه الأين مما وجَفَا *** طيَّ الليالي زلفاً فزلفا

سماؤه الهلال حتى احقوقنا *** وأصل الكلمة من الزلفى وهي القربة ، ويقال : أزلفه فازدلف أي قربه فاقترب ، وأزلفني أدناني .

{ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكر للذاكرين .

واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } : سبب نزولها ما في صحيح مسلم من حديث الرجل الذي عالج امرأة أجنبية منه ، فأصاب منها ما سوى إتيانها فنزلت .

وقيل : نزلت قبل ذلك ، واستعملها الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة هذا الرجل فقال رجل : أله خاصة ؟ قال : «لا ، بل للناس عامة » وانظر إلى الأمر والنهي في هذه الآيات ، حيث جاء الخطاب في الأمر ، { فاستقم كما أمرت } ، وأقم الصلاة ، موحداً في الظاهر ، وإن كان المأمور به من حيث المعنى عاماً ، وجاء الخطاب في النهي : { ولا تركنوا } موجهاً إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، مخاطباً به أمته ، فحيث كان بأفعال الخير توجه الخطاب إليه ، وحيث كان النهي عن المحظورات عدل عن الخطاب عنه إلى غيره من أمته ، وهذا من جليل الفصاحة .

ولا خلاف أنّ المأمور بإقامتها هي الصلوات المكتوبة ، وإقامتها دوامها ، وقيل : أداؤها على تمامها ، وقيل : فعلها في أفضل أوقاتها ، وهي ثلاثة الأقوال التي في قوله تعالى : وأقيموا الصلاة .

وانتصب طرفي النهار على الظرف .

وطرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء ، فالذي يظهر أنهما الصبح والعصر ، لأنهما طرفا النهار ، ولذلك وقع الإجماع ، إلا من شذ على أنّ من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمداً أنّ يومه يوم فطر وعليه القضاء والكفارة ، وما بعد طلوع الفجر من النهار .

وقد ادعى الطبري والماوردي : الإجماع على أنّ أحد الطرفين الصبح ، والخلاف في ذلك على ما نذكره .

وممن قال : هما الصبح والعصر الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وقال : الزلف المغرب والعشاء ، وليست الظاهر في هذه الآية على هذا القول ، بل هي في غيرها .

وقال مجاهد ومحمد بن كعب : الطرف الأول الصبح ، والثاني الظهر والعصر ، والزلف المغرب والعشاء ، وليست الصبح في هذه الآية .

وقال ابن عباس والحسن أيضاً : هما الصبح والمغرب ، والزلف العشاء ، وليست الظهر والعصر في الآية .

وقيل : هما الظهر والعصر ، والزلف المغرب والعشاء والصبح ، وكان هذا القائل راعي الجهر بالقراءة والإخفاء .

واختار ابن عطية قول مجاهد ، وجعل الظهر من الطرف الثاني ليس بواضح ، إنما الظهر نصف النهار ، والنصف لا يسمى طرفاً إلا بمجاز بعيد ، ورجح الطبري قول ابن عباس : وهو أنّ الطرفين هما الصبح والمغرب ، ولا نجعل المغرب طرفاً للنهار إلا بمجاز ، إنما هو طرف الليل .

وقال الزمخشري : غدوة وعشية قال : وصلاة الغدوة الصبح ، وصلاة العشية الظهر والعصر ، لأنّ ما بعد الزوال عشي ، وصلاة الزلف المغرب والعشاء انتهى .

ولا يلزم من إطلاق العشي على ما بعد الزوال أن يكون الظهر طرفاً للنهار ، لأن الأمر إنما جاء بالإقامة للصلاة في طرفي النهار ، لا في الغداة والعشي .

وقرأ الجمهور : وزلفاً بفتح اللام ، وطلحة وعيسى البصرة وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : بضمها كأنه اسم مفرد .

وقرأ ابن محيصن ومجاهد : بإسكانها وروي عنهما : وزلفى على وزن فعلى على صفة الواحد من المؤنث لما كانت بمعنى المنزلة .

وأما القراآت الأخر من الجموع فمنزلة بعد منزلة ، فزلف جمع كظلم ، وزلف كبسر في بسر ، وزلف كبسر في بسرة ، فهما اسما جنس ، وزلفى بمنزلة الزلفة .

والظاهر عطف وزلفاً من الليل على طرفي النهار ، عطف طرفاً على طرف .

وقال الزمخشري : وقد ذكر هذه القراآت وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل .

وقيل : زلفاً من الليل ، وقرباً من الليل ، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة أي : أقم الصلاة في النهار ، وأقم زلفى من الليل على معنى صلوات يتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل .

والظاهر عموم الحسنات من الصلوات المفروضة ، وصيام رمضان ، وما أشبههما من فرائض الإسلام .

وخصوص السيئات وهي الصغائر ، ويدل عليه الحديث الصحيح : « ما اجتنبت الكبائر » وذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين : إلى أنّ الحسنات يراد بها الصلوات الخمس ، وإليه ذهب عثمان عند وضوءه على المقاعد ، وهو تأويل مالك .

وقال مجاهد : الحسنات قول الرجل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وينبغي أن يحمل هذا كله على جهة المثال في الحساب ، ومن أجل أنّ الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال .

والصغائر التي تذهب هي بشرط التوبة منها وعدم الإصرار عليها ، وهذا نص حذاق الأصوليين .

ومعنى إذهابها : تكفير الصغائر ، والصغائر قد وجدت وأذهبت الحسنات ما كان يترتب عليها ، لا أنها تذهب حقائقها ، إذ هي قد وجدت .

وقيل : المعنى إنّ فعل الحسنات يكون لطفاً في ترك السيئات ، لا أنها واقعة كقوله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } والظاهر أنّ الإشارة قوله ذلك ، إلى أقرب مذكور وهو قوله : أقم الصلاة أي إقامتها في هذه الأوقات .

ذكرى أي : سبب عظة وتذكرة للذاكرين أي المتعظين .

وقيل : إشارة إلى الإخبار بأنّ الحسنات يذهبن السيئات ، فيكون في هذه الذكرى حضّاً على فعل الحسنات .

وقيل : إشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة وإقامة الصلاة ، والنهي عن الطغيان ، والركون إلى الظالمين ، وهو قول الزمخشري .

وقال الطبري : إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة ، وقيل : إشارة إلى القرآن ، وقيل : ذكرى معناها توبة ،