المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (39)

وقوله { وأنذرهم يوم الحسرة } ، الآية ، الخطاب أيضاً في هذه الآية لمحمد عليه السلام والضمير في { أنذرهم } لجميع الناس ، واختلف في { يوم الحسرة } فقال الجمهور وهو يوم ذبح الموت ، وفي هذا حديث صحيح ، وقع في البخاري وغيره ، أن الموت يجاء به في صورة كبش أملح ، وفي بعض الطرق كأنه كبش أملح ، وقال عبيد بن عمير كأنه دابة فيذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادى : يا أهل الجنة خلود لا موت فيها ويا أهل النار خلود لا موت ، ويروى أن أهل النار يشرئبون خوفاً على ما هم فيه{[7964]} . والأمر المقضي ، هو ذبح الكبش الذي هو مثال الموت وهذا عند حذاق العلماء ، كما يقال : تدفن الغوائل وتجعل التراب تحت القدم ، ونحو ذلك ، وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها ، وقال ابن زيد وغيره { يوم الحسرة } هو يوم القيامة ، وذلك أن أهل النار قد حصلوا من أول أمرهم في سخط الله وأمارته فهم في حال حسرة ، و «الأمر المقضي » على هذا هو الحتم عليهم بالعذاب وظهور إنفاذ ذلك عليهم ، وقال ابن مسعود { يوم الحسرة } حين يرى الكفار مقاعدهم التي فاتتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين ، ويحتمل ان يكون { يوم الحسرة } اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة ، ومنها يوم الموت ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك .

وقوله { وهم في غفلة } ، يريد في الدنيا الآن { وهم لا يؤمنون } كذلك .


[7964]:حديث ذبح الموت أخرجه البخاري، عن ابن عمر، ومسلم عن أبي سعيد الخدري، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، والترمذي عن أبي سعيد يرفعه، وقال فيه: حديث حسن صحيح، ولفظه كما في صحيح مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار الناريجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح ـ أي نقي البياض، أو بياضه أكثر من سواده ـ فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يأهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت ـ قال ـ ثم يقال: يأهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، ثم يقال: يأهل الجنة خلود فلا موت، ويأهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (39)

عقّب تحذيرهم من عذاب الآخرة والنداء على سوء ضلالهم في الدنيا بالأمر بإنذارهم استقصاء في الإعذار لهم .

والضمير عائد إلى الظالمين ، وهم المشركون من أهل مكة وغيرهم من عبدة الأصنام لقوله { وهم لا يؤمنون } وقوله { وإلينا يرجعون } [ مريم : 40 ] .

وانتصب { يوم الحسرة } على أنه مفعول خلَف عن المفعول الثاني لأنذرهم ، لأنه بمعنى أنذرهم عذاب يوم الحسرة .

والحسرة : الندامة الشديدة الداعية إلى التلهف . والمراد بيوم الحسرة يوم الحساب ، أضيف اليوم إلى الحسرة لِكثرة ما يحدث فيه من تحسر المجرمين على ما فرطوا فيه من أسباب النجاة ، فكان ذلك اليوم كأنه مما اختصت به الحسرة ، فهو يوم حسرة بالنسبة إليهم وإن كان يوم فرح بالنسبة إلى الصالحين .

واللام في الحسرة على هذا الوجه لام العهد الذهني ، ويجوز أن يكون اللام عوضاً عن المضاف إليه ، أي يوم حسرة الظالمين .

ومعنى قضى الأمر : تُمّم أمر الله بزجهم في العذاب فلا معقب له .

ويجوز أن يكون المراد بالأمر أمر الله بمجيء يوم القيامة ، أي إذ حشروا . و ( إذ ) اسم زمان ، بدل من يوم الحسرة .

وجملة وهم في غفلة حال من الأمر وهي حال سببية ، إذ التقدير : إذ قضي أمرهم .

والغفلة : الذهول عن شيء شأنُه أن يعلم .

ومعنى جملة الحال على الاحتمال الأول في معنى الأمرِ الكناية عن سرعة صدور الأمر بتعذيبهم ، أي قضي أمرهم على حين أنهم في غفلة ، أي بهت . وعلى الاحتمال الثاني تحذير من حلول يوم القيامة بهم قبل أن يؤمنوا كقوله { لا تأتيكم إلا بغتة } [ الأعراف : 187 ] ، وهذا أليق بقوله : { وهم لا يؤمنون } .

ومعنى وهم لا يؤمنون استمرار عدم إيمانهم إلى حلول قضاء الأمر يوم الحسرة . فاختيار صيغة المضارع فيه دون صيغة اسم الفاعل لما يدلّ عليه المضارع من استمرار الفعل وقتاً فوقتاً استحضاراً لذلك الاستمرار العجيب في طوله وتمكنه .