وقوله تعالى . { أمن خلق } وما بعدها من التوقيفات ، توبيخ لهم وتقرير على ما لا مندوحة لهم عن الإقرار به ، وقرأ الجمهور «أمّن » بشد الميم وهي «أم » دخلت على «من » ، وقرأ الأعمش «أمَن » بفتح الميم مسهلة وتحتمل هذه القراءة أن تكون «أمن » استفهاماً فتكون في معنى «أم من » المتقدمة ، ويحتمل أن تكون الألف للاستفهام ومن ابتداء وتقدير الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا من المعنى{[9043]} ، و «الحدائق » مجتمع الشجر من الأعناب والنخيل وغير ذلك ، قال قوم لا يقال حديقة إلا لما عليه جدار قد أحدق به ، وقال قوم يقال ذلك كان جداراً أو لم يكن لأن البياض محدق بالأشجار والبهجة الجمال والنضرة ، وقرأ ابن أبي عبلة «ذوات بهَجة » بجمع «ذات » وفتح الهاء من «بهجة » ، ثم أخبر على جهة التوقيف أنه { ما كان } للبشر أي ما يتهيأ لهم ولا يقع تحت قدرهم أن ينبتوا شجرها ، لأن ذلك بإخراج شيء من العدم إلى الوجود ، وقد تقدم ترتيب القراءة في الهمزتين من قوله «أئن{[9044]} .
«أئنك لأنت يوسف »{[9045]} ، وقوله [ أإله ]{[9046]} قال أبو حاتم القراءة باجتماع الهمزتين محدثة . لا توجد في كلام العرب ولا قرأ بها قارىء عتيق ، و { يعدلون } يجوز أن يراد به يعدلون عن طريق الحق أن يجورون في فعلهم ، ويجوز أن يراد يعدلون بالله غيره أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً .
{ أم } منقطعة بمعنى ( بل ) للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض مع مراعاة وجود معنى الاستفهام أو لفظه بعدها لأن ( أم ) لا تفارق معنى الاستفهام . انتقل بهذا الإضراب من الاستفهام الحقيقي التهكمي إلى الاستفهام التقريري ، ومن المقدمة الإجمالية وهي قوله { ءالله خير أم ما تشركون } [ النمل : 59 ] ، إلى الغرض المقصود وهو الاستدلال . عدد الله الخيرات والمنافع من آثار رحمته ومن آثار قدرته . فهو استدلال مشوب بامتنان لأنه ذكرهم بخلق السموات والأرض فشمل ذلك كل الخلائق التي تحتوي عليها الأرض من الناس والعجماوات ، فهو امتنان بنعمة إيجادهم وإيجاد ما به قوام شؤونهم في الحياة ، وبسابق رحمته ، كما عددها في موضع آخر عليهم بقوله { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } [ الروم : 40 ] .
و { من } للاستفهام . وهي مبتدأ والخبر جملة { خلق السموات . . } الخ وهو استفهام تقريري على أن الله إله واحد لا شريك له ، ولا تقدير في الكلام . وذهب الزمخشري وجميع متابعيه إلى أن ( من ) موصولة وأن خبرها محذوف دل عليه قوله فيما تقدم { ءالله خير } [ النمل : 59 ] وأن بعد ( أم ) همزة استفهام محذوفة ، والتقدير : بل أمّن خلق السموات الخ خير أم ما تشركون . وهو تفسير لا داعي إليه ولا يناسب معنى الإضراب لأنه يكون من جملة الغرض الأول على ما فسر به في « الكشاف » فلا يجدر به إضراب الانتقال .
فالاستفهام تقرير كما دل عليه قوله في نهايته في { أإله مع الله } فهو تقرير لإثبات أن الخالق والمنبت والرازق هو الله ، وهو مشوب بتوبيخ ، فلذلك ذيل بقوله { بل هم قوم يعدلون } كما سيأتي ، أي من غرض الدليل الإجمالي إلى التفصيل .
والخطاب ب { لكم } موجه إلى المشركين للتعريض بأنهم ما شكروا نعمة الله .
وذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلقه الله ، ولقطع شبهة أن يقولوا : إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء ، اغتراراً بالسبب فبودروا بالتذكير بأن الله خلق الأسباب وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب ، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب ، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر أو يقتلهما ، ولذلك جمع بين قوله { وأنزل } وقوله { فأنبتنا } تنبيهاً على إزالة الشبهة .
ونون الجمع في { أنبتنا } إلتفات من الغيبة إلى الحضور . ومن لطائفه هنا التنصيص على أن المقصود إسناد الإنبات إليه لئلا ينصرف ضمير الغائب إلى الماء لأن التذكير بالمنبت الحقيقي الذي خلق الأسباب أليق بمقام التوبيخ على عدم رعايتهم نعمه .
والحدائق : جمع حديقة وهي البستان والجنة التي فيها نخل وعنب . سميت حديقة لأنهم كانوا يحدقون بها حائطاً يمنع الداخل إليها صوناً للعنب لأنه ليس كالنخل الذي يعسر اجتناء ثمره لارتفاع شجره فهي بمعنى : محدق بها .
ولا تطلق الحديقة إلا على ذلك .
والبهجة : حسن المنظر لأن الناظر يبتهج به .
ومعنى { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } ليس في ملككم أن تنبتوا شجر تلك الحدائق ، فاللام في { لكم } للملك و { أن تنبتوا } اسم { كان } و { لكم } خبرها . وقدم الخبر على الاسم للاهتمام بنفي ملك ذلك .
وجملة { أإله مع الله } استئناف هو كالنتيجة للجملة قبلها لأن إثبات الخلق والرزق والإنعام لله تعالى بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به ينتج أنه لا إله معه .
والاستفهام إنكاري . و { بل } للإضراب عن الاستفهام الإنكاري تفيد معنى ( لكن ) باعتبار ما تضمنه الإنكار من انتفاء أن يكون مع الله إله فكان حق الناس أن لا يشركوا معه في الإلهية غيره فجيء بالاستدراك لأن المخاطبين بقوله { وأنزل لكم } وقوله { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } لم ينتفعوا بالدليل مع أنه دليل ظاهر مكشوف ، فهم مكابرون في إعراضهم عن الاهتداء بهذا الدليل ، فهم يعدلون بالله غيره ، أي يجعلون غيره عديلاً مثيلاً له في الإلهية مع أن غيره عاجز عن ذلك فيكون { يعدلون } من عدل الذي يتعدى بالباء ، أو يعدلون عن الحق من عدل الذي يعدّى ب ( عن ) .
وسُئل بعض العرب عن الحجاج فقال : « قاسط عادل » ، فظنوه أثنى عليه فبلغت كلمته للحجاج ، فقال : أراد قوله تعالى { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } [ الجن : 15 ] أي وذلك قرينة على أن المرار ب ( عادل ) أنه عادل عن الحق .
وأيَّاً مَّا كان فالمقصود توبيخهم على الإشراك مع وضوح دلالة خلق السموات والأرض وما ينزل من السماء إلى الأرض من الماء .
ولما كانت تلك الدلالة أوضح الدلالات المحسوسة الدالة على انفراد الله بالخلق وصف الذين أشركوا مع الله غيره بأنهم في إشراكهم معرضون إعراض مكابرة عدولاً عن الحق الواضح قال تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] .
والإخبار عنهم بالمضارع لإفادة أنهم مستمرون على شركهم لم يستنيروا بدليل العقل ولا أقلعوا بعد التذكير بالدلائل . وفي الإخبار عنهم بأنهم قوم إيماء إلى تمكن صفة العدول عن الحق منهم حتى كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم غير مرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.