البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ} (60)

الحديقة : البستان ، كان عليه جدار أو لم يكن .

وفي { أم من خلق } وما بعده منفصلة .

ولما ذكر الله خيراً ، عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عدّدها في غير موضع من كتابه ، توقيفاً لهم على ما أبدع من المخلوقات ، وأنهم لا يجدون بداً من الإقرار بذلك لله تعالى .

وقرأ الجمهور : { أمّن خلق } ، وفي الأربعة بعدها بشد الميم ، وهي ميم أم أدغمت في ميم من .

وقرأ الأعمش : بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام ، أدخلت على من ، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره .

قال ابن عطية : تقديره : يكفر بنعمته ويشك به ، ونحو هذا من المعنى .

وقدره الزمخشري : خير أما يشركون ، فقدّر ما أثبت في الاستفهام الأول ؛ بدأ أولاً في الاستفهام باسم الذات ، ثم انتقل فيه إلى الصفات .

وقال أبو الفضل الرازي في ( كتاب اللوامح ) له : ولا بد من إضمار جملة معادلة ، وصار ذلك المضمر كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه .

وتقدير تلك الجملة : أمن خلق السموات كمن لم يخلق ، وكذلك أخواتها ، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } انتهى .

وتسمية هذا المقدّر جملة ، إن أراد بها جملة من الألفاظ فهو صحيح ، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك ، بل هو مضمر من قبيل المفرد .

وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي ، وإنزال ما به قوام العالم السفلي وقال : { لكم } ، أي لأجلكم ، على سبيل الامتنان ، وأن ذلك من أجلكم .

ثم قال : { فأنبتنا } ، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالاً على اختصاصه بذلك ، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى .

وقد رشح هذا الاختصاص بقوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } .

ولما كان خلق السموات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله ، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة ، ويسوغ لفاعل السبب نسبة فعل المسبب إليه ، بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد ذلك بقوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } .

ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده ؟ ولو أتى فهو جاهل بطبعه ومقداره وكيفيته ، فكيف يكون فاعلاً لها ؟ والبهجة : الجمال والنضرة والحسن ، لأن الناظر فيها يبتهج ، أي يسر ويفرح .

وقرأ الجمهور : { ذات } ، بالإفراد ، { بهجة } ، بسكون الهاء ، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة ، كقوله : { أزواج مطهرة } وهو على معنى جماعة .

وقرأ ابن أبي عبلة ، ذوات ، بالجمع ، بهجة بتحريك الهاء بالفتح .

{ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } : قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا ، أو لامتناع وقوعه شرعاً ، أو لنفي الأولوية .

والمعنى هنا : أن إنبات ذلك منكم محال ، لأنه إبراز شيء من العدم إلى الوجود ، وهذا ليس بمقدور إلا لله تعالى .

ولما ذكر منته عليهم ، خاطبهم بذلك ؛ ثم لما ذكر ذمّهم ، عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال : { بل هم قوم يعدلون } ، إما التفاتاً ، وإما إخباراً للرسول صلى الله عليه وسلم بحالهم ، أي يعدلون عن الحق ، أو يعدلون به غيره ، أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً .

وقرىء : إلهاً ، بالنصب ، بمعنى : أتدعون أو أتشركون ؟ وقرىء : أإله ، بتخفيف الهمزتين وتليين الثانية ، والفصل بينهما بألف .

لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي ، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق ، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة ، فختم بقوله : { بل هم قوم يعدلون } ، أي عن عبادته ، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع .