الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ} (60)

قوله : { أَمْ مَنْ خَلَقَ } : أَمْ هذه منقطعةٌ ؛ لعدمِ تقدُّمِ همزةِ استفهامٍ ولا تَسْويةٍ . " ومَنْ خَلَقَ " مبتدأٌ . وخبرُه محذوفٌ ، فَقَدَّره الزمخشري : " خيرٌ أَمْ ما تُشْرِكُون " فَقَدَّرَ ما أَثْبَته في الاستفهامِ الأولِ ، وهو حَسَنٌ ، وقدَّره ابنُ عطيةً : " يُكْفَرُ بنعمتِه ويُشْرك به ، ونحوَ هذا من المعنى " . وقال أبو الفضل الرازي : " لا بُدَّ من إضمارِ جملةٍ معادِلةَ ، وصار ذلك المضمرُ كالمنطوق [ به ] لدلالةِ الفَحْوى عليه . وتقديرُ تلك الجملة : أَمَنْ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ كمَنْ لم يَخْلُقْ ، وكذلك أخواتُها . وقد أظهرَ في غيرِ هذا الموضعِ ما أَضْمَرَ فيها ، كقولِه تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ }

[ النحل : 17 ] . قال الشيخ : " وتَسْمِيَةُ هذا المقدَّرِ جملةً : إنْ أراد بها جملةً من الألفاظِ فصحيحٌ ، وإنْ أراد الجملةَ المصطلحَ عليها في النحوِ فليس بصحيحٍ ، بل هو مضمرٌ من قبيلِ المفردِ " .

وقرأ الأعمش : " أمَنْ " بتخفيفِ الميمِ جَعَلَها " مَنْ " الموصولةَ ، داخلةً عليها همزةُ الاستفهام . وفيه وجهان ، أحدهما : أن تكونَ مبتدأَةً ، والخبرُ محذوفٌ . وتقديرُه ما تقدَّم من الأوجهِ . ولم يذكُرْ الشيخُ غيرَ هذا . والثاني : أنها بدلٌ من " الله " كأنه قيل : أمَنْ خلَقَ السماواتِ والأرضَ خيرٌ أَمْ ما تُشْركون . ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيره . ويكون قد فَصَل بين البدلِ والمبدلِ منه بالخبرِ وبالمعطوف على المبدل منه . وهو نظيرُ قولك : " أزيدٌ خيرٌ أم عمروٌ أأخوك " على أن يكونَ " أَأخوك " بدلاً من " أزيد " ، وفي جوازِ مثلِ هذا نظرٌ .

قوله : { فَأَنبَتْنَا } هذا التفاتٌ من الغَيْبَةِ إلى التكلمِ لتأكيدِ معنى اختصاصِ الفعلِ بذاتِه ، والإِنذارِ بأنَّ إنباتَ الحدائقِ المختلفةِ الألوانِ والطُّعوم مع سَقْيها بماءٍ واحدٍ لا يَقْدِرُ عليه إلاَّ هو وحدَه ؛ ولذلك رشَّحه بقولِه : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } .

والحَدائِقُ : جمعُ حديقة ، وهي البستان . وقيل : القطعةُ من الأرضِ ذاتِ الماء . قال الراغب : " سُمِّيَتْ بذلك تشبيهاً بحَدَقَةِ العين في الهيئة وحُصولِ الماءِ فيه " وقال غيرُه : سُمِّيَتْ بذلك لإِحداقِ الجُدْران بها . وليس بشيءٍ لأنها يُطْلَقُ عليها ذلك مع عَدَمِ الجُدْران .

ووقف القراء على " ذات " مِنْ " ذاتَ بَهْجَة " بتاءٍ مجبورة . والكسائي بهاءٍ لأنها تاءُ تأنيثٍ .

قوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ } " أن تُنْبِتُوا " اسمُ/ كان ، و " لكم " خبرٌ مقدمٌ " . والجملةُ المنفيةُ يجوزُ أَنْ تكون صفةً ل " حدائق " ، وأن تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفةِ . وقرأ ابنُ أبي عبلة " ذواتَ بَهَجة " بالجمعِ وفتحِ هاءِ " بَهَجة " .